كتاب وشعراء

الخروج: طائر البرهان …..بقلم البرهان حيدر

انبثقتُ من رمادِ الحروبِ.
ليس تحتَ قدميّ ترابٌ، بل رمادٌ أسودُ،
ينسحقُ كأنفاسٍ ميتةٍ، يعلوكضبابٍ خانقٍ.
انبثقتُ وحيدًا.
لا أهلَ يُميّزوني، ولا شعراءُ يترنّمونَ باسمي. الماضي احترقَ مع الجدرانِ،
والوجوهُ تطايرتْ كشررٍ في ريحِ النسيانِ.
في جوفي، لا شيءَ سوى قصةٍ ريفيّةٍ،
تخفقُ كقلبٍ مرتجفٍ: اسمها “طائرُ البرهانِ”.
الرمادُ يتكلّمُ.
نعم!
يهمسُ في أذنيّ بصوتٍ كحفيفِ أجنحةِ الخفافيشِ على زجاجِ الليلِ المُهشمِ:
مَنْ أنتَ، أيُّها الشبحُ الذي يسحبُ ذاكرتَهُ من جوفِ الفراغِ؟”.
أجثمُ من على كتفيَّ، أستمعُ.
إنه ليس سؤالاً، بل اتهامٌ وجوديٌّ. ها هو ذا سارترُ يطلُّ من بينِ السُّحبِ السّامّةِ: “الوجودُ يسبقُ الماهيةَ!”.
لكنّي، انبثقتُ بلا ماهيةٍ سابقةٍ، بلا اسمٍ.
وجودي هذا ينزفُ سؤالاً على أرضٍ بلا معنى.
فجأةً، انشقَّ جدارُ الضبابِ الرماديِّ.
انبثقَ وميضٌ أزرقُ، نقيٌّ كدموعِ السماءِ الأولى. كانَ طائرًا! لكنْ ليس كالطيورِ.
ريشُهُ يتألّقُ كشظايا زجاجٍ زرقاءَ
تلتقطُ نورَ نجومٍ غائبةٍ.
عيناه
تثقبانِ الظلمةَ كسهمينِ من يقينٍ قديمٍ.
رفرفَ فوقي،
يُرسلُ رائحةَ ياسمينٍ بريٍّ
تخترقُ نتانةَ الموتِ،
وتنعشُ روحيَ العطشى.
هذا هو “طائرُ البرهانِ”! قصةُ جدّتي الريفيةِ تجسّدتْ أمامي،
واقعًا سحريًّا يسبحُ في فضاءِ الرمادِ.
اقتربَ** الطائرُ. لمسَ جبيني بمنقارِهِ الباردِ كقطرةِ ندى على جمرةِ الشكِّ. في اللحظةِ، انهمرَتْ فيّ فيضاناتٌ من الرؤى:
حقولُ قمحٍ تتمايلُ تحتَ شمسٍ دافئةٍ، وجوهٌ باسمةٌ تُلوّحُ من شرفاتٍ مُزهرةٍ، أغانٍ قديمةٌ تُرنّمُ على أوتارِ ريحٍ حنونٍ. تذكّرتُ! ليس أسماءً، بل إحساسًا بالانتماءِ إلى الأرضِ، إلى الحياةِ ذاتِها.
هذا هو البرهانُ الذي يُطلِقُهُ الطائرُ الأزرقُ: البرهانُ على أنَّ الجمالَ يعيشُ تحتَ الرمادِ، وأنَّ المعنى يُولدُ من رحمِ العدمِ.
رفرفَ الطائرُ أعلى، يرسمُ دواماتٍ من نورٍ في السماءِ القاتمةِ. تتبّعتُهُ بعينيّ، وروحي تشرأبُّ صعودًا. ها هو ذا ابنُ عربي يُهمسُ في داخلي: “مَنْ عرفَ نفسَهُ، فقد عرفَ ربَّهُ”.
الطائرُ البرهانُ، هذا التجليُّ الجماليُّ، هو شرارةُ الروحِ الإلهيّةِ فيّ،
تتأجّجُ رغمَ الدمارِ. الرمادُ يصرخُ بالعدمِ، والطائرُ يغنّي بالوجودِ. بينهما أقفُ، كائنًا يُصاغُ آنيًا، يختارُ، في كلِّ لحظةٍ، أن يُصدّقَ جناحَ النورِ ضدَّ جاذبيّةِ الفناءِ.
حطَّ الطائرُ على أنقاضِ بيتٍ. نقرَ بحزمٍ. انفتحَ*حجرٌ، وكأنَّ الأرضَ تتنفّسُ. بداخلهِ، بزغَ غصنٌ أخضرُ صغيرٌ، ينزُّ رطوبةَ الحياةِ كدليلٍ ملموسٍ على المُعجزةِ. الواقعيّةُ السحريّةُ تتجلّى الرمادُ يولّدُ نورًا، والخرابُ يحتضنُ بذرةً، والقصةُ الريفيةُ تتحوّلُ إلى حقيقةٍ تُلمسُ.
مددتُ يدي، ألمسُ الورقةَ الرقيقةَ.
برودةُ الخضرةِ تنطلقُ كتيّارٍ في عروقي، تُذكّرني بأنّي لستُ شبحًا، بل جسدٌ يشتهي، وروحٌ تتوقُ.
انطلقَ الطائرُ في رحلةٍ أخرى. أمسكتُ بالقصةِ – قصةُ طائرِ البرهانِ – التي تحوّلتْ من ذكرى خافتةٍ إلى بوصلةٍ وجوديّةٍ.
سأمشي في دربِ الرمادِ، لكنّي الآنَ أحملُ في قلبي نارًا زرقاءَ لا تنطفئُ، وغصنًا أخضرَ ينمو.
أنا هذا الوجودُ الذي يُبنى من الرمادِ بقوّةِ القصّةِ وجمالِ البرهانِ.
سأروي، سأزرعُ، سأخلقُ معنىً، حتى لو انفردتُ في صحراءِ النسيانِ. لأنّ طائرَ البرهانِ أثبتَ:
من أعماقِ الحريقِ، تنبثقُ أجنحةٌ، وفي صميمِ الفراغِ، ينزفُ اليقينُ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى