قراءة نقدية من إنجاز د مرشدة جاويش في نص الشاعرة سمر الديك” ليس إلاك “

تفكيك الغناىية وإعادة بناء الذات العاشقة : قراءة ذرائعية تفكيكية في قصيدة (ليس إلّاكَ) للشاعرة والناقدة السورية سمر الديك
بقلم: مرشدة جاويش
شاعرة وناقدة سورية
النص:
ليس إلاّك
أدمنتُ قُربَك نجمةً تتلالا
وغدا فراقك مجرماً مختالا
إنّي وإن حِزتُ المكارمَ جلّها
لم أكترثْ أبداً لِغيركَ لا لا
أقبلتُ نحوك كالرضيع لأمّه
زدْني بربّك بهجةً وجمالا
وإذا النوى زاد الأسى
في مهجتي
سأظلُ مُنتظراً أراكَ خيالا
طيفُ المساءِ قد استقرّ على يدي
حتَّى أبوحَ وأعزفَ الموالا
أنت القصيدةُ والمساءُ ونبرتي
أنت الخِصالُ إذا ذكرت خِصالا
كُنْ مثل غصنَ البانِ عطفا ليّناً
فالحبُّ نارٌ تحصدُ الآجالا
ياويح نفسي إن جهرتُ بما بها
يا ويحَ صمتي إن أثرتُ سؤالا
وإذا حضرتَ أراك نبضاً هائما
وإذا ارتحلت سأنشدُ الأطلالا
2/6/2025
سمر الديك فرنسا/سورية
تمهيد نقدي:
تشكل العنونة في النصوص الشعرية بوابة أساسية لفهم الأبعاد الدلالية والوجودية التي تنطوي عليها التجربة الشعريّة في قصيدة (ليس إلّاك) يتخذ العنوان موقعاً مركزياً ليس بوصفه مجرد تسمية بل كإعلان نفي وتميّز يتجاوز الحضور الظاهر إلى عمق التوتر بين الذات والآخر
في هذه النقطة تتداخل الرؤى الذرائعية والتفكيكية لتمنحنا مفاتيح قرائية جديدة لا تكتفي بتثبيت المعنى أو تأكيده بل تسعى إلى تفكيك الشبكة الدلالية المتحركة التي تفتح المجال لتعدد التأويلات وإعادة بناء المعنى في أفق التغيّر والشك
بهذا يصبح العنوان عنصراً فاعلاً في بنية النص يتنفس مع القصيدة ويشكل مدخلاً ضرورياً لاستكشاف التوترات الوجدانية والفلسفية التي تتداخل في النص الشعري
مما يضعنا أمام قراءة نقدية متعددة المستويات تستجيب لانفلات المعنى وتداخل دلالاته
تفكيك العنوان
(ليس إلّاك) كمركز نواتي للنص :
العنوان (ليس إلاك) هو عبارة تحمل في طياتها توازناً دلالياً بين النفي والإثبات بين الاستبعاد والتفرد ما يجعله مركزاً نواتياً ينطلق منه النص ويعتمد عليه في بنائه الشعري والدلالي
أولاً : نفي (ليس) لا يعني الغياب الكلي بل يكشف عن حضورٍ مضمر وهو حضور الآخر الذي لا يمكن أن يحيد عنه الوعي الشعري
فالنفي هنا لا ينزع الوجود بل يحدده ويقويه ويؤكد حصر الحب والاشتياق في شخص واحد لا بديل له مما يخلق صراعاً بين التوق والامتناع
ثانياً : (إلّاك) تضع الآخر في موضع حصري تفرد به الذات المتوجعة فتتحول العلاقة من تعددية محتملة إلى علاقة أحادية شديدة التوتر حيث يصبح الآخر محور الوجود الشعري واللغة مركزاً تلتف حوله كل الصور والمعاني
هذا التوتر بين النفي الحاد والتفرد الحصري يولّد في النص أفقاً من الغموض والتعدد
إذ لا يتحول العنوان إلى معنى ثابت ومغلق بل يبقى مفتوحاً على الاحتمالات وكأنّه دعوة لاكتشاف الذات في علاقتها بالآخر عبر مساحة من الافتقاد والحضور المتداخل
في ضوء ذلك يتجلّى العنوان بوصفه (نواة) مركزية تتوزع حولها عناصر النص الأخرى : التكرار- الصراع- الانكسار- والانتظار- كلها تلتقي عند هذا المحور الذي يحدد طبيعة الخطاب الشعري ويشكل إيقاعه الوجداني واللغوي
المدخل التأويلي:
في بنية القصيدة الغنائية تتجلّى اللغة بوصفها كائناً حيّاً لا يكتفي بالإفصاح عن الشعور بل يمارس تشكيلاً داخلياً لما يراد قوله وما يُخفى وحين تكتب سمر الديك نصّها (ليس إلّاكَ) فهي لا تنشد حكاية عشق تقليديّة
بل تدخل من بوابة الشغف لتؤسس نسغاً جمالياً يتجاوز التقريرية نحو بناء غنائي فلسفي مزدوج : ظاهره العاطفة وباطنه صراعُ الذات مع توقها ومع المعنى ذاته
نستقرئ هذا النص بمنهج تفكيكي يتجاوز البنية المغلقة للقصيدة العموديّة ويكشف عن آليّات الخطاب متقاطعين مع المقاربة الذرائعيّة في رصد وظيفة الشعر وأثره المرجعي ثم نعيد تأويل بنيته الدلاليّة والنفسيّة بوصفه خطاباً جدليّاً مع الآخر ومع صورة الذات في مرآة الغياب
فالقصيدة بوصفها تجلياً صوتيّاً للغياب :
/ ليس إلّاك أَدمنت قربك نجمة تتلألأ
وغدا فراقك مُجرماً مختالا /
هنا تتجسّد ثنائيّة الحضور/ الغياب بوصفها بنية دافعة للقصيدة كلّها
ففي أنساق الخطاب يحضر (الآخر) المخاطب لا كشخص ماثل بل كـ(صورة) متخيلة تتوهج في اللغة /نجمة تتلألأ / ثم تعاقب ضمن سياق رمزي / مجرماً مختالاً /
فالتفكيك هنا لا يعني الهدم بل كشف ما يتسرب عبر الشِّعر من توتر دلالي :
ف / الإدمان على القرب/ لا يفصح فقط عن التعلق بل عن فقد سابق
و/ النجمة / تتوهج لا في يد الشاعرة بل على بُعد ما يجعل
القرب مرادفاً للمنال المستحيل
ثانياً : نجد الأنا العاشقة كذاتٍ منفعلة ومتفائلة بذات الوقت
/ إنّي وإن حزت المكارم جلَّها
لم أَكترث أبداً لغيرِك لا لا/
يبدو ظاهر البيت إقراراً بالعشق لكنّ ما يثير التفكيك هو المفارقة النفسية في قولها / وإن حزت المكارم/ أي أنّ الذات تدرك امتلاءها الخارجي – نجاحها وقيمتها ومع ذلك تقرّ بنقص داخلي لا يسدّ إلا بالمحبوب
الـ/ لا لا/ في القافية ليست للتأكيد فقط بل تمثل تفجراً صوتياً للرفض الداخلي لأي بديل
هي تكرار يعيد إنتاج القرار الشعوري لكنّه كذلك يلمّح إلى هاجس الإنكار كما لو أنّ الذات ما تزال تصارع احتمال افتقاد الآخر أو خيانته
ثالثاً : طالما الذرائعية بوصفها وظيفة وجدانية وتأثيرية
في ضوء المنهج الذرائعي فإنّ النص يقاس بما يحدثه من أثر على المتلقّي وبكيفية تشكيله لسياق إدراكي وعاطفي
ولعل أكثر ما يحقق الوظيفة الذرائعية في هذا النص هو الجمع بين التماهي والمفارقة : كما في
/ أقبلت نحوك كالرضيع لأمّه
زدني بربّك بهجة وجمالا/
الصورة هنا تؤسس وظيفة وجدانية عالية التأثير الأمومة
الطفولة- التوسّل- النقاء
لكن الذرائعية ترينا ما هو أبعد
كيف تستعمل الشاعرة كلّ طاقتها الصّوريّة للتأثير العاطفي لتكثيف وقع الغياب لا حضوره
حتى الطلب بـ/زدني/ هو توسل شعري لا لزيادة الجمال فقط بل كـ/ استبقاء رمزي/ للحضور الآيل للرحيل
رابعاً : نبحث في البنية الصوتية عن القافية والموّال الداخلي
فالقصيدة تنتمي لعروض الكامل وقد أحكمت الشاعرة فيه القافية ذات الصدى الممتد (ألف من ثم لام ثم ألف) :
( مختالا – لا لا – جمالا خيالا – الموالا-خصالا الآجالا – سؤالا الأطلالا)
هذا الامتداد الصوتي يصنع إيقاعاً داخليّاً متدفقاً ويعيد إنتاج وحدة شعوريّة مغنّاة تحاكي الموال من جهة وتكرّس تكرار الذات لهواجسها من جهة ثانية
الـ/موال/ ليس فقط عنصراً صوتياً بل هو صورة مرآوية للبوح الشفيف الذي لا يقال مباشرة بل يغنّى يُبكى يعزف :
/طيف المساء قد استقرّ على يدي
حتّى أَبوح وأَعزف الموالا/
خامساً : سنرى كيف أن الحبّ بوصفه كينونة وجوديّة كما في هذا البيت
/كنْ مثل غصن البان عطفاً ليّناً
فالحبّ نار تحصد الآجالا/
في التراكيب القديمة غالباً ما يستعمل /غصن البان/ للدلالة على الرقة والطراوة لكنّ الشاعرة هنا تحمّله توتّراً وجودياً :
/ كنْ عطفاً ليّناً / استجداء لا لين فقط بل اعتراف بقسوة سابقة
/ الحبّ نار/ ليست ناراً للتدفئة بل للحصاد أي للفناء
القصيدة لا تحتفي بالحبّ الرومانسي بل تظهره كقوّة موت ناعمة
تفني العاشقة لا برفض الآخر بل بتخلّيه بصمته- بغيابه-
سادساً : نجد في انفجار الصّمت وصوت الطيف أيضاً الآتي
/ يا ويح نفسي إن جهرت بما بها
يا ويح صمتي إن أَثرت سؤالا/
هنا تبلغ الذات العاشقة ذروتها التراجيديّة
الصوت ليس إعلاناً بل صراع بين النّطق والكتمان بين الانفجار والانفناء
كلّ جملة في النص تقف على عتبة الانهيار ويبدو أنّ الشاعرة تخفي أكثر مما تظهر وأنّ القصيدة كلها مدارة بصوت غير منطوق بل طيفيّ داخليّ
وفي النهاية :
/ وإذا حضرت أراك نبضاً هائماً
وإذا ارتحلت سأنشد الأطلالا/
فـ/ الأطلال / لم تعد موقعاً مكانيّاً بل تحوّلت إلى حالة شعوريّة
و/ النبض الهائم/ ليس عضوياً بل هو استعار لحركة اللغة حين تصبح كياناً يهيم دون جسد
إنّ قصيدة / ليس إلاك/ للشاعرة تتجاوز حدود الغنائية التقليديّة وتبني لغة مشحونة بصراع داخليّ بين الحضور والغياب
وبين صوت الذات وصوت الآخر
وقد مارست الناصة سلطة لغويّة تتواشج فيها بنية العمود الكلاسيكي مع استعارات حداثية في الانفعال والتوتر والدلالة المفتوحة
ومن خلال المقاربة التفكيكية والتحليل الذرائعي يتضح أن النص ينتج ذاته لا بوصفه وعاء للعاطفة بل كـ/ خطاب متمرد/ على اكتمال المعنى
هو نص يعيد تموضعه كلما قرأناه
ويفكك شيفراته بنفسه كلما اقتربنا من وهج نجمته الأولى
دمت مبدعة حقيقية
انجاز : مرشدة جاويش