
في إحدى الليالي الباردة خرجتُ مُتأخرة للاحتفال مع صديقاتي سرحت قليلا في ردات فعلهن على تأخيري وبدأت أردد بيني وبين نفسي لا بأس، لا داعي للتمتمة في صدوركم، أعلم أنني آخر من يصل في كل مناسبة وهذه يا سادة، أصغر عيوبي!
دخلتُ المكان العام بخفة المرتبك، أتحسس خطواتي كأنني ألعب “الغميضة” مع عيون الناس، أحاول تفادي الأقدام، الكؤوس، وحتى قالب الكيك الذي بدا لي كمصيدة لشخصٍ مثلي؛ إن سقطتُ عليه، سأُعدم رميًا بالسباب، ألا ليتها رصاصة رحمة لكانت أقل وطأة.
ويا لكرم القدر، صادفتُ كرسيًا فارغًا كأنه بُعث لي خصيصًا، تمتمتُ في سري: شكرًا أيها الكرسي لأنك فارغ من اجلي ! تحسسته جيدًا قبل أن أجلس، لا لأنني وسواسية بل لأني لا أريد أن أجد نفسي في حضن أحدهم، ولا حتى إحداهن فنحن في زمن أُصيبت فيه القلوب بتخمة الظنون السيئة.
جلست، تحصنتُ بصمتي، وألصقت رأسي بالحائط خلفي، أبحث عن ظلٍ هادئ في هذا الليل المليء بأصوات تتصاعد كأن العتمة تصريح مفتوح بالجنون. نساء يتغامزن، يتعانقن، يضحكن بكلمات على حافة الوقاحة لكن لا بأس، كله بين بنات، أليس كذلك؟
وإذ بشيءٍ يسقط في حضني من أعلى الحائط، لم أصرخ بل فتحتُ كفي كأنني أتلقى هدية! تحسسته كانت لوحة! رفعتها، قلبتها، وجدتها بلا عنوان بلا ملامح كأنه لوحة فنية فقط لا يهم
علّقتها مكانها، ثم عدتُ إلى صمتي.
ويا للمفاجأة حين اشتعلت الأنوار، فقد كانت تلك اللوحة الوحيدة المعلقة بشكلٍ صحيح جسد رجل عارٍ تمامًا، يتوسط الجدار خلفي كأنه إعلان رسمي عن حضوري أما البقية كلها مُعلقة بالمقلوب
كأن الجدران قررت أن تخجل.
ضحك الجميع. كأنني أديت عرضا مسرحيًا دون أن أدري. نظراتهم، همساتهم، تلميحاتهم الصادمة، وكأنني ارتكبت جريمة فنية لا تُغتفر. تمنيت لو كانت اللوحة لكلب، أو حتى لإمرأة عارية ، أو حتى لرجلٍ ينزف دمً، لا جسدًا فقط!
ضحكت، بصوتٍ عالٍ، كأنني أحاول الغرق في موجة من السخرية لأطفو على سطح الموقف. ثم بشيء من التحدي، وقفت وبدأت أقلب كل اللوحات. واحدة تلو الأخرى وجميعها أجساد عارية، بألوان ومشاعر مختلفة.
انفجر المكان بمزيج من الضحك، الاستنكار والهمس. نادوا اسمي، تغامزن عليّ، قهقهن بوقاحة
فتنفست، وصرخت:
اسكتن جميعًا تكفي تلك الفوضى العارمة
فوجئتُ بصوتي، كأنني سمعتُه للمرة الأولى أجش واثق، مُمتلئ بصرخة لا تشبهني.
وانطلقت بحديث فني تثقيفي طرحت السؤال الأهم مبدئيَّا هل تعرفن ما هو الفن التجريدي؟ و استأنفت فورًا حديثي مُجيبة دون انتظار إجابة إحداهن هو أن تخلعن المعنى كما نخلع الثياب هو أن نرى ما نخجل منه إذا وُضع في إطار ليصبح أمرًا طبيعيًا ! هذه الأجساد المُعلقة ليست عَريَّا، بلْ مرايا لنا نحن!
صمتن، بعضهن ضحكن بسخرية، أخريات أُعجبن بالكلام، القلة فقط فهمت، أما الغالبية فأحبت أن تبقى في أمان القطيع.
عندها عرفت؛ ليست المشكلة في اللوحات بل في العيون التي لا ترى إلا إن عُكست الصورة
وقفتُ وسط الغرفة، واللوحات خلفي تعود إلى مقلوبها، والنساء إلى عاداتهن.
أعدتُ جلوسي على الكرسي ذاته، و كتبتُ على منديلي الصغير: أخطر أنواع العُري هو عُري العقول حين تختبئ تحت وشاح الفضيلة .
ثم تركت المنديل على المقعد، ومضيتُ. لا أحد رآني أخرج، لكنهم جميعًا، سيبحثون يومًا عن تلك التي علّقت الحقيقة على الجدار، ولم تخفِها في الظلام.