رؤي ومقالات

أشرف الصباغ يكتب :ماذا تريد روسيا من المشهد

أدلى الكرملين اليوم بتصريح لا يمكن وصفه بأي شيء إلا بـ “الغريب”. وهو وصف دبلوماسي ومهذب. إذ توجه إلى دول الشرق الأوسط قائلا: “يجب على دول المنطقة وضع الخطوط الحمراء في الصراع الإيراني الإسرائيلي”، مشيرا إلى أن “هذه المنطقة تغرق الآن في هاوية من عدم الاستقرار والحرب”.
هذا التصريح يترافق ويتزامن مع تصريحات روسية أخرى، من قبيل أن روسيا أقامت للتو تحالفا استراتيجيا مع “العالم العربي”، وأن “المنطقة في انتظار كارثة نووية”، وأن “الحرب العالمية النووية على الأبواب”.
لا أحد يعرف ما هي دول المنطقة بالضبط التي يجب أن تضع “الخطوط الحمراء”. ولا أحد يعرف ما هي هذه “الخطوط الحمراء” أصلا. هل هي منطقة الشرق الأوسط، أم منطقة الخليج، أم منطقة الخليج والشرق الأوسط، ام منطقة الخليج والشرق الأوسط زائد تركيا؟ أما الأهم، فهو كيف لتلك المنطقة أن تحدد الخطوط الحمراء التي لا يعرفها ولا يعرف بها أحد، إلا الكرملين طبعا؟ وهل المطلوب أن تجتمع دول المنطقة وتحدد “الخطوط الحمراء”.. وماذا لو لم تتمكن دول المنطقة من الاتفاق على الخطوط الحمراء؟ وهل مصالح دول المنطقة متوافقة لدرجة الاتفاق على خطوط حمراء؟
يبدو أن روسيا لا تستطيع أن تقلع بعد عن الطرق القديمة، والصور الذهنية الخادعة والمزيفة. وأعتقد أن الطرق القديمة لا تؤدي إلا إلى نفس النتائج القديمة.
هل تقصد روسيا، مثلا، تكوين تحالف ما في المنطقة، أم تقصد تفعيل دور الجامعة العربية او الاتحاد الأفريقي، أو الاثنين معا؟ وهل هناك مقدمات لإقامة أي تحالف في المنطقة، وهل يمكن أن تقوم جامعة الدول العربية بأي دور في إرساء هذه الخطوط الحمراء، والتي بالمناسبة يمكن أن تكون مخالفة تماما لتوقعات ومصالح روسيا؟! أم أن موسكو ترغب بتكوين تحالفات وهمية، يمكن استخدامها دعائيا من جهة، وكأوراق للمساومة مع الولايات المتحدة لتحقيق مصالح روسية حصرا من جهة أخرى؟!
هل تعرف روسيا أن مصالح دول المنطقة مختلفة ومتفاوتة؟ وهل تعرف أن الدول المتنفذة والغنية والمؤثرة لديها اتفاقيات سلام مع إسرائيل، بينما الدول العربية الأخرى تتعامل مع إسرائيل عبر قنوات متعددة؟ وهل تعرف موسكو أن دول الخليج لديها مصالحها، بصرف النظر عن علاقاتها مع روسيا أو إسرائيل أو إيران، وأن هذه الدول لم تعد هي تلك الدول التي كانت قبل ثلاثين وأربعين عاما، بل أصبحت قادرة على المناورة والفعل والتأثير وممارسة النفوذ، بصرف النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع هذا الأمر؟
ماذا تريد روسيا من المشهد الذي تطرحه بداية من أسطورة الخطوط الحمراء إلى الكارثة النووية والحرب العالمية النووية أو الذرية؟
لنفترض جدلا أن الدول العربية اتحدت مثلما تريد روسيا، أو في أسوأ الأحوال جلست واتفقت على خطوط حمراء، هل هناك ضمانة لموسكو بأن تلبي هذه الخطوط الحمراء مصالح الكرملين؟ وهل فعلا يمكن أن تتحقق هذه الفرضية على أرض الواقع؟ إذًا، روسيا تلعب في منطقة أخرى تماما تتعلق بمصالحها القومية حصرا، حتى لو استخدمت نصف دول العالم لتحقيق هذا الهدف. وهذا طبعا من حقها تماما، وحتى لو حولت أي منطقة بعيدة أو قريبة إلى ساحة صراع بينها وبين الغرب.
من الواضح أن موسكو ترغب في تشكيل أي كيانات وهمية وهشة وغير فاعلة، مثلما كان الاتحاد السوفيتي يفعل لإثارة القلق لا أكثر. ومن ثم تستخدمها إعلاميا ودعائيا، ثم تساوم وتتاجر بها مع أطراف أخرى، مثل أوروبا والولايات المتحدة. أي نفس الطرق القديمة التي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى نفس النتائج القديمة.
لا أرغب الآن في وضع مقارنات بين أوكرانيا وإيران من جهة، ووضع روسيا والولايات المتحدة من جهة أخرى. وذلك على الرغم من أن النظرة الأولى، ولو حتى كانت سطحية، فهي تشير إلى مقاربات أو تقاربات بين وضع روسيا وأوكرانيا، ووضع الولايات المتحدة وإيران. ومع ذلك فمن السابق لأوانه إجراء مثل هذه المقارنات وبناء تحليلات انطلاقا من هذا التشابه أو التقارب، وليس التماثل التام طبعا. وعموما، فالتطرق إلى هذا الموضوع قبل أوانه، قد يدفعنا للسير في طريق استسلام روسيا أو تنازلها عن الأراضي التي استولت عليها في أوكرانيا، مقابل الإبقاء على إيران حتى لو كانت مهلهلة ومخترقة تماما. فلن تحدث أي تنازلات أو استسلامات روسية بالنسبة لأوكرانيا طالما الرئيس فلاديمير بوتين في السلطة. الأمر الآخر المهم، مَنْ الذي يفترض أن روسيا قد تدخل حربا من أجل إيران؟ هل دخلت روسيا حربا من أجل سوريا؟
وبالتالي، هل روسيا ترى أنها استعادت علاقاتها مع الولايات المتحدة، ولو حتى بشكل ضئيل وهش للغاية وغالبيته دعائي، وبالتالي عليها أن تعمل على إنشاء كيانات وهمية في الشرق الأوسط لمواجهة أوروبا والاتحاد الأوروبي من جهة، واستخدامها ورقة للمساومة مع الولايات المتحدة من جهة أخرى؟ وهل أي كيان يمكن أن يظهر في المنطقة، يستطيع أن يكون معادلا اقتصاديا أو سياسيا أو علميا وتكنولوجيا، ونوويا، للاتحاد الأوروبي؟! ومَنْ قال أصلا إنه يمكن تشكيل أي كيانات فاعلة أو غير فاعلة في الشرق الأوسط أصلا، ومَنْ قال أيضا إنه حتى لو تشكلت أي كيانات، ستكون متحالفة مع روسيا أو إيران؟
نعرف أن الضربات المتلاحقة لروسيا في الأعوام القليلة الأخيرة، سواء فقدان سوريا، والتورط في المستنقع الأوكراني، واحتمال فقدان إيران، أثرت كثيرا على موسكو وعلى تحركاتها. ولكن موسكو انشغلت كثيرا في السنوات الأخيرة بالمناوشات في ليبيا وفي السودان وفي أثيوبيا وفي بعض الدول الأفريقية، وظنت أنها تحارب النفوذ الغربي هناك، فتركت لها فرنسا والولايات المتحدة الجمل بما حمل في بعض الدول الأفريقية البعيدة جدا، وجردتها من سوريا، وتجردها الآن من إيران، وتحافظ على العقوبات الاقتصادية والتكنولوجية والمالية عليها.
روسيا إمبراطورية من إمبراطوريات الأطراف، ولها منهجها السياسي الخاص، مثل الصين، لتحقيق مصالحها. ومناهج إمبراطوريات الأطراف معروفة ويمكن البحث عنها والتمعن فيها جيدا. وروسيا أيضا دولة كبرى، ونووية، وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي.. أي إنها دولة لها مصالحها أيضا، ولديها طرقها وأساليبها لتحقيق هذه المصالح. بالضبط مثل الولايات المتحدة والصين وكافة القوى الإمبريالية الأخرى. وبالتالي، على الدول “المعنية”، التي تمثل دور البيادق على رقعة الشطرنج، أن تبحث عن مصالحها الوطنية والقومية حصرا، وأن تكون أكثر واقعية، بدلا من اللجوء إلى الأوهام والصور الذهنية المزيفة، أو تكرار نفس الأساليب والطرق القديمة التي لا يمكن أن تؤدي إلى أي نتائج جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى