محمد عبد العاطي يكتب :نحو فهم استراتيجي أعمق للصراع الراهن بين إسرائيل وإيران

في سياق التصعيد المتسارع بين إسرائيل وإيران، يجد المراقب نفسه أمام مشهد معقّد لا يُمكن اختزاله في ثنائية عسكرية تقليدية أو مقارنته بسوابق تاريخية على نحو مباشر. لفهم هذا الصراع، لا بد من مقاربة متعددة الأبعاد تستند إلى أربعة أسئلة منهجية تُستخدم عادة في تحليل النزاعات الكبرى: ما هي الأهداف؟ ما الوسائل؟ ما القدرات؟ وما التداعيات؟ إلا أن هذه الأسئلة، رغم أهميتها، لا تكفي وحدها لتقديم قراءة مكتملة ما لم تُدرج ضمنها المتغيرات الإقليمية والدولية، والقيود البنيوية الداخلية لكل من أطراف النزاع، فضلًا عن تاريخ التفاعل بين القوة والمقاومة في منطقة اعتادت التداخل بين المحلي والدولي.
الهدف المُعلن للمحور الإسرائيلي-الأميركي، والمدعوم سياسيًّا من قوى غربية نافذة، يتجاوز مجرد احتواء إيران النووية، ليطال بنية النظام ذاته. الرغبة في إعادة تشكيل النظام الإيراني، بما يفضي إلى نظام جديد أقل عدائية وأكثر انضباطًا في سياق المنظومة الغربية، هو ما يفسر إصرار هذا المحور على ربط الملف النووي بمسائل أوسع: الصواريخ، النفوذ الإقليمي، والهوية الأيديولوجية للنظام. غير أن هذا الهدف، وإن بدا جذّابًا من منظور استراتيجي غربي، لا يخلو من محاذير كبيرة، خصوصًا حين يُراد له أن يُنجز عبر أدوات عسكرية مباشرة.
الوسائل المستخدمة حتى الآن تشمل مزيجًا من الضربات المحددة، والحرب الاستخباراتية، والضغوط السياسية والاقتصادية المعمقة، ضمن تنسيق أميركي-إسرائيلي محكم. ورغم أن هذا المحور يملك تفوقًا نوعيًّا هائلًا في القوة العسكرية التقليدية، إلا أن الأداة العسكرية وحدها لم تُفلح، حتى الآن، في تغيير الأنظمة المستعصية، بل أفضت في كثير من الحالات إلى انهيار الدولة نفسها، لا إلى إعادة تشكيلها، كما حدث في العراق وليبيا.
من هنا، فإن مقاربة إيران لا يمكن أن تُبنى على النموذج العراقي كما يُروّج أحيانًا. النظام الإيراني يتمتع بعمق مؤسسي وتماسك أيديولوجي واجتماعي يفوق بكثير ما كان عليه نظام البعث في أيامه الأخيرة. فإيران، وإن واجهت تحديات داخلية متزايدة، ما زالت تحتفظ ببنية سلطوية متداخلة بين الحرس الثوري، والمؤسسة الدينية، ومجتمع تعبوي يملك قابلية للمناورة والصمود، حتى تحت أقصى الضغوط. أضف إلى ذلك أن طهران طوّرت، عبر عقود، ما يشبه “منظومة مقاومة موزعة”، لا تعتمد على مركزية الرد، بل على شبكات متشعبة من الحلفاء في اليمن، العراق، لبنان، سوريا، وحتى داخل فلسطين، وهي قادرة على الرد بالوكالة، وعلى نحو غير متناظر.
إن التركيز على الضربة الأميركية الأولى بوصفها نقطة التحول الحاسمة في الصراع ينطوي على قدر من التبسيط. فحتى لو جاءت الضربة واسعة وموجعة، فإن طبيعة إيران كفاعل غير تقليدي تسمح لها بالرد بأساليب غير تقليدية أيضًا، عبر استهداف مصالح غربية في الإقليم، أو عبر الهجمات السيبرانية، أو حتى عبر استخدام أدواتها الاقتصادية (كمضيق هرمز). الرد الإيراني لن يكون حاسمًا بالمعنى العسكري التقليدي، ولكنه قد يكون مزعزعًا للاستقرار بشكل مستمر، يُفرغ نصر القوة من معناه الاستراتيجي.
أما التداعيات المحتملة، فإنها لا تنحصر في الداخل الإيراني. بل تشمل المنطقة برمتها، التي تعاني أصلًا من هشاشة أمنية وتصدعات سياسية. تفكك إيران، أو حتى اضطرابها الداخلي الكبير، قد لا يُسعد خصومها الإقليميين، بل قد يُفضي إلى موجات من عدم الاستقرار تمتد إلى العراق، والخليج، ولبنان، ويُعيد خلط الأوراق في التوازنات الطائفية والإثنية. وهذا يُبرز أهمية الفاعلين الإقليميين في معادلة الصراع، فهم ليسوا متفرجين بل أطرافًا فاعلة بدرجات متفاوتة، وقد يشكلون قنوات وساطة أو أدوات ضغط أو ساحات تصفية حسابات بالوكالة.
الداخل الإسرائيلي أيضًا ليس محصّنًا. الانقسام السياسي، الاحتجاجات المستمرة، وحساسية الجبهة الشمالية، تجعل أي تصعيد طويل مكلفًا. كذلك الولايات المتحدة، التي تواجه بيئة سياسية داخلية مضطربة وانتخابات وشيكة، ليست في وضع يسمح لها بخوض حرب واسعة دون تداعيات داخلية، خاصة أن الرأي العام الأميركي أصبح أكثر تحفظًا تجاه التدخلات العسكرية الخارجية.
كل ما سبق يُشير إلى أن السيناريو الحتمي لانتصار عسكري يؤدي إلى تغيير النظام في إيران، ليس مضمونًا، حتى وإن كان مطروحًا ضمن أهداف بعض العواصم الغربية. فالصراعات الكبرى لا تُحسم بالقوة وحدها، بل بقدرة كل طرف على إدارة التوازن بين الردع والتكلفة، بين الفعل والاستيعاب، وبين الحسم والسيولة.
إن ما بدأ بين إيران وإسرائيل ليس عاصفة تثور وتهدأ، ولا يمكن عزله عن السياق الأوسع لتشكيل النظام الإقليمي الجديد. غير أن الظن بأن الأمور ستمضي وفق خطة مرسومة سلفًا نحو تغيير النظام وتفكيك القدرات الإيرانية دون كلفة كبرى، هو تبسيط مفرط لواقع أكثر تشابكًا. الصراع طويل، والمعادلة معقّدة، والنتائج ليست مضمونة لأي طرف.
وعليه، فإن من الحكمة أن تبادر جميع الأطراف، بلا استثناء، إلى مراجعة أهدافها ووسائلها ومواقفها بتمعّن ومسؤولية، قبل أن تتجاوز الكلفة حدود السيطرة، ويصبح الألم مشتركًا وممتدًّا على الجميع.