رؤي ومقالات

عبده فايد يكتب :القصة، من الظاهر،

العدو بدأ قصفًا هائلًا على سوريا..مبنى رئاسة الأركان ومقر وزارة الدفاع ومحيط القصر الرئاسي، وسط تحذيرات بأن القصف سوف يستمر لعدّة أيام..ما الذي يحدث تحديدًا..وما هي التداعيات الكارثية؟..
القصة، من الظاهر، تُشير إلى رغبة العدو في حماية الدروز في محافظة السويداء التي شهدت اشتباكات بين المكون الدرزي وقبائل البدو، فتدخّلت قوات الأمن السورية لفضّ الاشتباك..أو بالأدق وجدتها فرصة مناسبة لاستعادة السيطرة على المحافظة التي صودر قرارها لصالح شيخ معروف بولائه للعدو وهو حكمت الهجري..تصاعدت الأمور منذ ذلك الحين بشدّة..اعتداءات موثّقة من الطرفين..بعضها قامت به قوات الأمن السورية، والبعض الآخر قامت به العصابات الموالية للهجري بحق الأمن السوري..ولكل خطابه..سوريا الجديدة ترغب في استعادة النظام في المدينة، إذ لا يُعقل أبدًا وجود جزء من أراضي الدولة خارج سيطرتها..أما الهجري وطائفته فيرغبون في ممارسة نوع من الحكم الذاتي، ويتفاخرون بأنهم يحصلون على حماية من العدو حال الاقتراب من سيادتهم على محافظتهم..وهنا وجد العدو الفرصة سانحة..التدخل..بدأ الأمر على استحياء بالأمس..استهداف رمزي للأرتال السورية لم تمنعها من التقدم نحو مركز السويداء والسيطرة عليها..لكن اليوم أعلن وزير دفاع العدو أن الضربات الرمزية انتهت، والآن يبدأ استهدافًا مخيفًا من أجل إجبار الجيش السوري على مغادرة السويداء بالكامل..
هذه القصّة فقط من الظاهر أما باطنها فيحمل العديد من الأخبار السيئة..العدو انتهى بالفعل من الأخطار الكبرى المحيطة به في الإقليم، وهي بالترتيب الحزب ثم إيران وبين المحطتين سقطت حلقة الوصل بين الطرفين، نظام الأسد الإجرامي، وبالتبعية انتهى محور طهران الذي استغرقت أربعين عامًا لتشييده..ظنّ الكل أن بنك أهدف العدو توقّف ولم يتبق سوى محطة القطاع وتهجير أهله وفقًا للخطة التي أعدها العدو سلفًا بإنشاء مدينة إنسانية في رفح..وبدأ الحديث عن شرق أوسط جديد تسوده الشراكة بين العرب السنّة أو بالأدق المتحالف منهم مع النظامين السعودي والإماراتي والعدو..سورية الجديدة لم تكن استثناء..النظام الجديد في دمشق – على العكس من خلفيته السابقة – تصرف كما يحب البعض أن يصفه ببراجماتية واضحة..الاقتراب بشدة من الرياض وأبو ظبي، ومنحهما وكالة تسويق النظام الجديد في الدوائر الغربية، ومن رحم الارتماء في الحضن الخليجي جنى السوريون رفعًا للعقوبات على دمشق بعد 14 عامًا..لكن أن تكون جزءً من المحور الجديد في المنطقة لا يعني فقط حصد المكاسب، بل دفع أثمان ثقيلة..
لا يُمكن لحكومة الكيان أن تقبل أبدًا بسورية جديدة في المحور الجديد دون الخضوع لكامل شروطها..صحيح أبدت سورية الشرع إلى حد اللحظة مرونة..ومن ينسى على الصعيد الشعبي وقت أن رُفعت لافتات تُحيي من أسماه بعض السوريين ‘‘أبو يائير‘‘ بعد أحداث البيجرز، أو البقلاوة المنثورة في الشوارع على روح قيادات لبنان..على الصعيد الرسمي لم يخف الأمر على أحد..لقاءات سرية وأخرى كُشف عنها إلى العلن..في بروكسل وباكو كانت ثمة لقاءات دبلوماسية بين دمشق والعدو، بيانات وزارة الخارجية السورية حذفت كلمة العدو وأصبحت تشير له بمصطلح ‘‘الجانب الفلاني‘‘..حتى الجولان مُسحت الكلمة المُذيّلة به على الدوام ‘‘المحتّل‘‘..وأصبحت الجولان مفردة دون تمييز لصفتها الراهنة..أما ترامب راعي الصفقة الجديدة المنتظرة فسوف يحصل وفقًا لتصريحات سورية على برج ترامب في قلب العاصمة التي سيُعاد إعمارها..كان ذلك سيلًا غير مسبوق من التنازلات السورية الخطابية/المعنوية عن الحقوق التاريخية القديمة، فضلًا عن الصمت على استيلاء العدو على 4 نقاط جديدة في القنيطرة وجبل الشيخ..وظنّ الكل أن دمشق آمنة من تلك اللحظة..على الأقل سوف تشتري سكوت العدو..
لكن من قال أن العدو يكتفي بتلك التطورات التاريخية..لن يحدث..لم يتدخّل العدو لأجل عيون الدروز الذين احتموا به..هم بالنسبة له خونة، مجرد مواطنين درجة ثانية في جيشه..أما في الداخل السوري فليس لهم قيمة تتجاوز الموارنة الذين تعاونوا مع الاحتلال عقب غزو بيروت من الكتائب والقوات وصولًا لجيش سعد حداد وأنطون لحد في الجنوب..التدخل لسبب آخر تمامًا..هو جرّ دمشق إلى طاولة المفاوضات لتقديم تنازل على بياض عن كل الأراضي المحتلّة قديمًا وحديثًا..وحينئذ تُصبح المعادلة..سوريا منقوصة من الجولان وجبل الشيخ..أو سوريا منقوصة من السويداء..وبما أن وضع الجولان وجبل الشيخ محسوم بفعل الفارق الكاسح في القوة..فلن يجد المفاوض السوري بدًا من جنى المكسب المتاح وهو السويداء..لكن حتى بعد ذلك لن يكتفي العدو..بل سوف يجعل السويداء أقرب ما يكون لمنطقة عازلة، حيث لا يُسمح بانتشار واسع للجيش السوري والآليات الثقيلة، وإنما يُكتفى فقط بالعتاد الخفيف وانتشار قوات وزارة الداخلية وليس الدفاع، مع الحفاظ على مركز عسكري قوي وهاديء للهجري ورجالاته الدروز لضمان الانتفاض إذا ما خرقت سورية الجديدة تعهداتها..يحصل العدو وفق تصوره إذن على أرضين..تلك التي يحتلها بقواته..وتلك التي حرم سوريا من نشر قواتها عليها..وتصبح الأرض السورية ممهدة حتى دمشق..حال ما قرر العدو في أي يوم غزو سورية برًا..
المدهش هنا تحديدًا هو أن تلك الضربات الموجعة تتم برضاء خليجي..الرياض وأبو ظبي الذين رهنت سورية جزء من قرارها لهما، وبالغ السوريون في الاحتفاء تحديدًا بولي العهد السعودي بتقليد إشارته الاحتفالية..العاصمتان لم يفعلا شيئًا لإيقاف تدخّل العدو..تستطيع الرياض انتزاع قرار مُعقّد مثل رفع العقوبات، وتستفيد شركاتها وكذلك الشركات الإماراتية وفي مقدمتها شركة موانيء دبي التي حصلت على عقد لتطوير الموانيء السورية بقيمة 690 مليون $..لكن لا تستطيع إقناع ترامب – صديق سورية الجديد – بإجبار العدو على وقف ضرباته؟..ترامب نفسه يوافق على هذا الاستهداف للمنشآت السورية عندما ترغب دمشق فقط – كأي دولة محترمة – في استعادة السيطرة على كامل ترابها الوطني؟..مفارقة غريبة..وكأن الكل العدو وواشنطن، الرياض وأبو ظبي قد اتفقوا جميعًا على استقرار سوريا بالتأكيد..لكنه ذلك النوع الذي يُطلق عليه في أدبيات العلوم السياسية ‘‘استقرار مقيّد‘‘..بحيث يفقد المركز السيطرة على الأطراف، وتصبح المقايضة على الطعام والشراب مقابل الحدود الوطنية والهوية الجامعة..استقرار يلقي بالمفتاح في جيب أميركا وحلفائها الإقليميين، بحيث تدور سورية في فلكه، وإلا مُحيت وحدتها الهشّة في ظرف ثوان بتمرد محلي ناشب أو استهداف خارجي حاسم..
ليس هذا هو الخبر السيء فحسب..بل أن العدو يسعى لتطبيق قاعدة جديدة في المنطقة بأسرها..لا يكتفي بهزيمة الحزب في الجنوب بل يقضم الأرض اللبنانية..لا يكتفي بصمت النظام السوري على احتلال الأرض في الجولان والقنيطرة والجبل، بل يسعى لوضع محافظة كاملة أخرى خارج الخدمة..لا يسعى لما أسماه تجفيف قدرات الأبطال في القطاع، بل لتطهير القطاع بالكامل من سكانه وحشرهم في 6 كيلو متر مربع على الحدود مع مصر..العدو هنا يحتل أراض إضافية دون طلقة واحدة، يؤمن مجاله الحيوي ليس فقط بالاحتلال المباشر، بل بامتلاك الشرعية الأميركية في الاستهداف مفتوح المدى لأي خطر يتهدّده، ومن ناحية أخرى بمنع الجيوش الوطنية من التواجد في الأرض المتبقية..وهذا أقرب ما يكون لإملاءات القوى المنتصرة بعد الحروب الكونية الكبرى، حُيث تُجفف الظروف، كل الظروف، الواجبة لنهوض الدول المحيطة به..لبنان وسوريا تحديدًا..وتبقى أجزاء واسعة من اراضيها محل استباحة، حيث لا تنشر الجيوش الوطنية ولا يرفع السلاح..وتعتقد أن الأمر سيتوقف عند حدود الدولتين فحسب..ولن يمتد لباقي دول الطوق العربي؟..أنت إذن واهم..
في البداية ظنّ العرب أن الصمت على القطاع سيكفل لهم السلامة..سقط الكل تباعًا..بدأوا بجبهة إسناد الحزب في جبل عامل..للمرة الثانية سوف يظن العرب أنهم ليسوا معنيين بالتفوق الكاسح المتنامي للعدو في الإقليم..استولى العدو لاحقًا على نقاط استراتيجية في غمضة عين على الحدود السورية ونشر قواته وأعلن أنها جزء منه لا يتجزأ..مرة ثالثة صمت العرب..ثم نطلقت طائرات العدو صوب طهران في استباحة غير مسبوقة..وللمرة الرابعة ظنّ العرب – بمن فيهم سورية الجديدة – أنهم ليسوا مستهدفين، طالما التزموا الصمت الأبدي حتى على أراضيهم المحتلّّة..شهية العدو تتنامى واليوم يسود سورية في السماء والأرض ويسعى لسلب الدولة سيطرتها المشروعة على محافظة ضمن أراضيها..ماذا فعل العرب؟..للمرة الخامسة صامتون..والكل يظن أنه بعيد عن الاستهداف..ولم تعلمهم التجربة شيء..أي شيء..لن يقف العدو..المطلوب الآن من ساسته هو خضوع كامل غير مشروط، تمتلك فيه طائراته الوصاية على كامل الأرض العربية..ليست هناك نديّة..ليس هناك اتفاقات شراكة تراعي مصالح الأطراف جميعها..ليس هناك سوى قوة واحدة مهيمنة والباقي أتباع، ولن أستحي من استخدام وصف..عبيد..هذا هو الدرس الوحيد المتبقي..اعط للعدو إصبعًا وسوف يلتهم كامل جسدك..
سورية الآن في وضع بالغ المرارة..إن انسحبت من السويداء وانتصر الهجري بفعل ضربات العدو..فذلك إيذان بتصدع داخلي لن يستمر طويلًا حتى الانهيار..وإن قبلت بالمقايضة بين السويداء مقابل اتفاق أمني مع العدو يرسخ مطالبه في الجولان والقنيطرة والجبل، وهذا هو الهدف اصلًا، فذلك إيذان بتحول البلد بأكمله لمحمية تابعة للعدو وفي المرتبة الثانية محمية استثمارية وسياحية لعاصمتي القرار الخليجي..وكما لم يقتصر الأمر سابقًا لا على القطاع ولا بيروت ولا طهران، فثق يقينًا أن ما يحدث في سورية لن يتوقف عن حدودها..بل أن شهية العدو لن تتوقّف إلا عند تأمين محيطهم الحيوي كاملًا..والمقصود هنا..مصر التي لفظتهم من سيناء ويحلمون بها منذ ذلك الحين، إما تهجيرًا لأهالينا وفقًا لمخطط المدينة الإنسانية، أو احتلالًا كما يتوهمون..والضفة الشرقية من نهر الأردن حيث لن يفيد أبدًا الدرع الصاروخي الأردني الذي حمى أرض العدو من وابل صواريخ طهران..ومن لا يُدرك الخطر حتى الآن فسوف يأتيه الدور من حيث لا يحتسب..وإن كان ما حدث يُعلمنا درسًا واحدًا فقط..فهو أن العدو لن يتوقّف أبدًا..صحيح هناك درس ثاني..أن عرب الخليج تحديدًا الرياض وأبو ظبي على استعداد لبيع المنطقة بالكامل لصالح العدو بمن فيهم الحلفاء المقربون..نسيت أن هناك درس ثالث..أن كل هذا كان يُمكن تجنبه لو استهلكت طاقة العدو كلها في القطاع، لو مرّر العرب سيولًا من عتاد وذخيرة كانوا كافيين لرفع قدرة الأبطال على النزال وتكبيد العدو آلامًا تدفعه، على الأقل، لعدم التفرّغ لجبهات أخرى..لكن العرب صمتوا..ومن رحم الصمت على ستين ألف روح، بدأ العد التنازلي لهلاكهم..والمؤسف حد اللحظة أنهم لا يعلمون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى