حمزه الحسن يكتب :”من التوبامورس الى البدو”

في الربع الأخير من القرن العشرين كان اليسار العربي بأطيافه لا يقبل إلا بالتغيير الجذري للعالم وكانت بعض جماعاته تؤمن بالكفاح المسلح ويمكن قراءة رواية: وليمة لأعشاب البحر، حيدر حيدر، على غرار اليسار في قارة أمريكا اللاتينية كمنظمة التوبامورس في الارغواي حتى ان المفكر والروائي الفرنسي ريجيس دوبريه الذي أعتقل مع جيفارا في بوليفيا وحكم عليه بالإعدام وخفف عنه الى سبع سنوات بتدخل الرئيس شارل ديغول وحملة تضامن عالمية،
وضع كتابا بعنوان” نحن التوباماروس”، تلك المنظمة اليسارية التي دخلت في حرب عصابات مدمرة في شوارع ضيقة بقيادة من سيصبح رئيس الأوروغواي تاباري فاسكيز, الزاهد والنظيف الملقب بالرئيس الفقير لأنه أكبر من السلطة وعاش حياة متقشفة بعد مصالحة مع النظام وقبوله دخولها العمل السياسي وفوزها في الانتخابات.
لكن منذ نهايات القرن العشرين وانهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارشو، تعرض اليسار العربي بكل عناوينه الى ضربات مميتة ومع الوقت خفض توقعاته عن التغيير الجذري والحرب الثورية وأفاق من بعض الأوهام وتشرذم وتحولت شرائح منه الى العمل في قناة أو صحيفة من كانوا يطلقون عليه بالرجعي بل ذهبت طلائع منه مع الاحتلال في العراق، وفريق فضل العزلة والانزواء احتراما للذات وفريق رابع تحول الى كلب نابح على كل مختلف وحلت الكراهية والسوقية والوشايات محل الايديولوجيا الثورية لأن العقل المُلقّن كالكلب الهرم لا يتعلم عادة جديدة، وفريق خامس ظل وفيا للذات ويعاشر صور الالبوم القديم عن أيام المزبن والفلقة والاختباء في التنور التي تحولت الى أيام نضال بلا أي مكسب فكري وثقافي.
بعد سقوط دكتاتوريات في انتفاضات مرتبة بذرائع الديمقراطية وحقوق الانسان واسلحة الدمار الشامل، جاء زمن المنظمات الارهابية المسلحة وانتقلنا من التخوين السياسي الى التخوين الطائفي ومن الارهاب الفكري الى الارهاب التكفيري، ومن زمن القائد المؤسس وزمن الرفيق المؤسس
الى زمن الفقيه المؤسس ، وبدل أن تكون المرجعية ماركسية أو تروتسكية أو ماو تسي تونغ ، حلّ إبن تيمية والقرضاوي ومن لف لفهم كمراجع جهادية وانتهى زمن الكفاح الثوري المسلح وجاء مكانه زمن نكاح الجهاد المسلح في السرير ، وبدل لحية جيفارا ظهرت لحى البغدادي والقرشي والسفاح الجولاني.
حتى وصلنا الى الحضيض هذه الأيام عندما دخل البدو في صراع مسلح في سوريا مع ان هؤلاء جماعات مغلقة وتعيش في غيتو نظام عزل قبلي واجتماعي واخلاقي وتتحاشى الصراعات السياسية لكن من غير المتوقع أن يتوقف التدهور والانحدار الى هذا الحد وهناك جماعات على برنامج الصراعات الاهلية المسلحة ستدخل مكرهة أم بالتقاليد أم خلق مناخ الصراع.
وبدل ” كلنا توبامورس” سيكون الشعار ” كلنا بدو” وكلنا قبائل ولن نشرب القهوة بعد اليوم ، كما جاء في بيان عشائر عربية في سوريا:” يٌحرّم علينا شرب القهوة حتى تعود السويداء إلى كنف الدولة” الصادر من ما يعرف بـ”مجلس القبائل والعشائر السورية” أعلن خلاله “النفير العام” والتوجه “فوراً” إلى السويداء لمواجهة من سماهم “العصابات الخارجة على القانون”.
ولم نعد نعرف من هي ” العصابات الخارجة على القانون” في دولة بلا قانون ويقودها إرهابي مع كل حثالات الأرض؟
كل ما نخشاه أن مضيف وديوان العشائر السورية لن يشم بعد اليوم رائحة القهوة والقصة ليست عودة السويداء بل عودة سوريا التاريخية كوطن للجميع بدل هذا التوحش وسقوط الأقنعة المخيف من وجوه كانت غاطسة في السراديب النفسية وفي عالم سفلي حتى زوال المكبس عن بالوعة الجيف السرية.