د. فيروزالولي تكتب :الجلاد الذي بكى يومًا على الأطلال

مقدمة: بلدٌ يعيش بين فكيّ الموت والنكتة
في بلد يُفترض أن تشرق فيه الشمس من بوابة التاريخ، أصبحت الحياة فيه أقرب إلى مزحة سوداء طويلة، يضحك منها الجلادون ويبكي تحتها المواطنون. اليمن، هذه الأرض المرهقة من الانتداب والعسكر والانقلابات، باتت اليوم مختطفة من قِبل جماعة كانت تبيع خطاب المظلومية في الأسواق، ثم عادت فاشترت به سلاحًا، فاستولت على الدولة وحولت معاناة الناس إلى مشروع طويل الأمد من الضرائب، والخُمس، والدماء.
بدأت الحكاية بسلسلة حروب ضارية خاضها اللواء علي محسن الأحمر ضد الحوثيين في صعدة، ظنّ اليمنيون حينها أن ذلك الملف قد يُغلق أخيرًا. لكن بعد ثورة 2011، تداخلت الخيوط، وتراكمت الأخطاء، وظهر الحوثي مجددًا بوجه جديد… وجه المظلوم الذي عرف من أين تُؤكل السلطة.
دخلوا صنعاء عام 2014 مدججين بالسلاح، لا بالأفكار، واقتحموا المعسكرات، وأهدروا الدولة في ضربة خاطفة. القمع بدأ مبكرًا، والبطش لم يترك حتى النساء في التظاهرات، وحين فرّت الحكومة الشرعية إلى الرياض، بدا المشهد واضحًا: سقطت الجمهورية، وولد عصر “السيد”.
ومن المفارقات الفجة، أن من تحالف معهم لاحقًا هو علي عبدالله صالح، الذي خاض ضدهم ست جولات عسكرية، ثم سلّم لهم مفاتيح الدولة نكاية بمن خلعه. لكن اللعبة لم تكتمل، فقُتل صالح في نهاية عام 2017، وانتهى المشهد كما بدأ: بدم، وغدر، وصرخة طويلة لا يسمعها أحد.
ثم… جاءت الكوميديا السوداء الحقيقية
الجلاد الذي بكى يومًا على الأطلال
كان شاحب الوجه، رث الثياب، يتحدث عن العدالة كمن يتلو دعاء المظلوم تحت المطر، وعن الكرامة كمن خرج لتوه من زنزانة الطغاة. قال إنه من صعدة، حيث كانت الطائرات تحلق فوق رؤوس الأطفال كأنها غربان شؤم، وحيث التراب يشهد أنين القبور أكثر مما يسمع ضحكات الأحياء.
قالوا لنا: هذا صوت المظلومين… وقال هو: جئنا نطالب بحقنا، لا أكثر.
لكن لا بأس، نمنحه لحظة تعاطف. فكلنا نحمل شيئًا من وجع الماضي.
ثم فجأة، تحوّل ذلك المظلوم إلى مقاول رسمي للجلد الجماعي. دخل صنعاء على دبابة، وعلى كتفه شعار “الصرخة”، وفي قلبه مشروع لا يعترف بشعب، ولا بمواطنة، ولا بجمهورية.
أصدر إعلانًا دستوريًا من طرف واحد، عيّن بموجبه نفسه فوق الدولة، وفوق الدستور، وفوق الشعب. أراده مشروع “إنقاذ”، لكنه كان إعلانًا رسميًا لانتحار مؤسسات الدولة. ومنذ تلك اللحظة بدأ عهد جديد، لا يُشبه إلا عصور القرون الوسطى، حين كان الخليفة يأخذ الخُمس من الذهب، ويطلب الزكاة على الكرامة، ويستدين على حسابك ليشتري لك قميص شهيد أنت لا تعرفه.
الآن، كل شيء باسم “العدوان”. الكهرباء مقطوعة بسبب العدوان. المرتبات مسروقة بسبب العدوان. الضرائب خيالية لأن العدوان باهظ الثمن. أما أنت، فأنت مجرد رقم في بطاقتك التموينية، تصمت أو تُتّهم بالخيانة.
يطالبونك بالتبرع، لا لبناء مدرسة أو مستشفى، بل لـ”الحشد الشعبي”. ويجمعون الشباب والأطفال، ثم يُلقون بهم إلى الجبهات كأنهم حطب لحرب لا تنتهي. والنتيجة؟ يمني يقتل يمنيًا، وأمٌّ تبكي ابنها في صنعاء، بينما أخرى تدفن ابنها في تعز، وكلاهما ضحية شعار لا يعرف الرحمة.
تتبرع للحشد، تغضب لأجل غزة، وتنسى أن أمك ماتت في مستشفى بلا أكسجين. يذكّروك يوميًا بأنك في “خندق الصمود”، لكن لا أحد قال لك إنك في حفرة اقتصادية لا قاع لها. يطلبون منك أن تموت بشرف، لأن العيش بكرامة صار خيانة.
أما “السيد”، فصار محاطًا برجال ببدلات أنيقة، وعساكر يحملون بندقيات مذهبة، وأبواق إعلامية تتحدث عن صمود أسطوري، رغم أن الشعب بالكاد يصمد أمام سعر كيس الدقيق.
يا للمهزلة!
من كان يومًا يبكي مظلوميته، صار اليوم جلادًا يرتدي عباءة “الإيمان”، ويجلدك باسم “الوصية”، ويُفلسك باسم “الخُمس”.
لكن لا عليك. سيأتي اليوم الذي تنتهي فيه هذه المسرحية. وعندها، لن يُرشق بالورود، بل سيُساق إلى الهامش الذي خرج منه أول مرة… ولكن هذه المرة، دون رجعة، ودون دموع، ودون خطبٍ عن المظلومية.