د. فيروزالولي تكتب :الجزيرة… البث الحي من جهنم!

منذ عام 2011 ونحن نعيش على إيقاع بثٍّ مباشرٍ لا ينقطع: جرافات تدكّ بيوتًا، جثثٌ تتنفس بالكاد، حناجر تصرخ بـ”الحرية”، وأخرى تخنقها الدبابات. وسط كل هذا، يطلّ علينا مراسل قناة الجزيرة، دائمًا على أهبة الاستشهاد، بكامل معداته وابتسامته المهنية: “نعم، نحن هنا، وسط الدماء، قبل أن تجفّ…”.
لم يكن الأمر بحاجة إلى كل هذه الدقة في التوقيت، فالجنازات العربية لا تحتاج دعوة. الجزيرة دائمًا هناك، تعرف متى ينفجر البركان، وأحيانًا تعرف قبل أن ينفجر، فتعدّ العدة، الكاميرات، المراسلين، والمحللين القادمين من آخر طبقات الجحيم اللغوي.
من ينزف… نغطيه!
الأزمة ليست في التغطية، بل في “شهية التغطية”. كأن بين الجزيرة وبين خراب الدول قصة حب. مصر؟ سوريا؟ اليمن؟ ليبيا؟ السودان؟ غزة؟ لبنان؟ كلما انهار سقف، خرج من تحته بثّ مباشر. وكلما ارتفع دعاء، ردّت عليه الجزيرة بتقارير “حصرية”.
اللافت أن هذه القناة لم تغب عن مشهد كارثي إلا عندما حصل في محيطها الخليجي. فحين خيم الصمت على “الدوحة” والهدوء على شوارع “الرفاه النفطي”، غاب البث الحي، وظهر بدله برنامج وثائقي عن صيد اللؤلؤ في القرن التاسع عشر!
هل تعرف لماذا؟ لأن الدم العربي لا يملك هوية واحدة. هناك دم يُستهلك، وآخر يُدّخر. هناك دم “يُباع مع التحليل السياسي”، ودم آخر لا يصلح حتى للبث المؤجل.
الإعلام كهنة العصر
في عصر العولمة، لم يعد الإعلام ناقلًا للحدث، بل صانعًا له. الجزيرة – وغيرها – أصبحت تشكّل وجدان الشعوب أكثر مما تشكّله المساجد أو المدارس أو حتى الأمهات.
والمصيبة أن الشعوب تحب من يُفجعها أكثر من حبها لمن يُطبطب على جراحها. وكلما بثّت القناة مشهدًا مأساويًا، زاد الإقبال… وكأننا شعبٌ اعتاد الرعشة ولا يرتاح إلا فوق حبل المشنقة.
باسم الله نقطع رؤوس الحقيقة
تستخدم الجزيرة خطابًا دينيًا “مموّهًا”، يغلف تغطياتها بمصطلحات الجهاد، الكرامة، والثورات المباركة. لكن من يتأمل المشهد جيدًا، يعرف أن هذه “القداسة الإعلامية” لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تبارك القصف من الجو وتسمّيه “تحريرًا”.
عندما يصبح كل شيء في الإعلام “جهادًا” و”ثورة” و”كرامة”، لا يعود هناك مكان للحقيقة. بل تصبح الحقيقة ذاتها كافرة إن لم تنزل في توقيت بثّ الجزيرة.
الجزيرة: حين تصبح لقمة العيش ممزوجة بالدم
من الناحية الأخلاقية، السؤال البسيط هو: هل يجوز بناء مجد إعلامي على أنقاض المجتمعات؟ أن يصبح “السبق الصحفي” أهم من سلامة الناس؟ أن نغطي مذبحة بينما نبتسم للكاميرا؟
نعم، الإعلام مهنة. لكن متى أصبحت “المكنسة” التي تنظف آثار المجازر أداة للرزق؟ ومتى تحول الدم إلى منتج تلفزيوني يُقاس بنسب المشاهدة؟!
ختامًا: هل لو عمّ السلام، ستبث الجزيرة من الخليج؟
دعونا نحلم: لو اتفقت الأطراف كلها في ليبيا، وصافحت الفصائل بعضها في غزة، وركب السوري آخر باص إلى الأمل، هل ستعود كاميرات الجزيرة إلى الخليج؟ هل سنشاهد بثًا حيًا من الدوحة عن بطالة الشباب، أو عن العمّال في الحرّ، أو عن “حقوق الإنسان من نوع VIP”؟
لا. لأن السلام لا يجذب المشاهد، و”دوخة الخليج” ليست خبرًا يُباع، ولا يحتمل الجدل ولا الصراخ ولا الشاشات المنقسمة إلى 12 نافذة.
فيا قناة الجزيرة، كما تدين تُدان. والعدسة التي لا ترى إلا الخراب، يومًا ما ستنعكس صورتها، ونراكِ – وأنتِ تصوّرين نفسكِ – وقد صرتِ أنقاضًا في مجرة الحقيقة.