حمزه الحسن يكتب :أولاد الغيوم

في حرب الجبال عام 1974 ـــــــــ 1975 سقط 60 الف جندي برقم رسمي وغالبية هؤلاء من الجنود الفقراء لكنك لن تقرأ لا مقالة ولا رواية ولا تشاهد لوحة عن هؤلاء الضحايا
لان كل تاريخ الجنود خارج التغطية سواء قتلوا في حرب او اعدموا كأسرى كما حدث عام 1975 في سجن كلالة وسجن قضاء جومان عندما تم اعدام الجنود والطيارين الأسرى نهاية الحركة والهروب الى ايران وقتل مع هؤلاء في السجن المناضل الكردي فاخر ميركه سوري في نيسان 1975 وبعد اتفاقية 6 آذار 1975 في الجزائر بين العراق وايران وانهاء الحركة الكردية مقابل التنازل عن حقوق عراقية
في شط العرب وهو اللغم الذي انفجر فيما بعد في حرب الخليج الأولى، وعن مذبحة الأسرى في سجن قضاء جومان هناك فصل أيضا في كتاب” قبل أن يغادرنا التاريخ” للفريق الركن رعد الحمداني قائد الفيلق الثاني لقوات الحرس الجمهوري الأخير وهو ضابط محترف ومثقف وحالة نادرة من أغلب جنرلات صدام البهائم ،
وكان يومها برتبة ملازم آمر رعيل دبابات وتصادف وجودنا معا في باب السجن، كما ان هذه المجزرة موثقة في مراكز أبحاث وسجلات وزارة الدفاع ويوميات كبار الضباط المنشورة.
هرب الملاّ مصطفى مع مسعود وأدريس وعيسى سوار مسؤول جهاز الاستخبارات البارستن
في الحزب الديمقراطي الكردستاني الى ايران عبر منفذ حاج عمران،
وقد هرب معهم ليعازر تسفرير العقيد في الموساد ويعترف إنه
صدم من سرعة الجيش،
وهو احد ضباط جهاز المخابرات و العمليات الخاصة الاسرائيلي الموساد،
اصله من يهود ايران، عمل مدير شعبة الموساد في بيروت،
كما ترأس شعبة الموساد في شمال العراق و ايران، مؤلف كتاب: انا كردي،
لكن الاكثر بشاعة كما ارشدنا الاهالي كانت في حقول رايات في ذلك الربيع الدامي: بعد إعدام القائد الكردي فاخر ميركه سوري نزيل السجون الملكية والجمهورية وإخوته ووالده الطاعن في السن وهو يتجاوز عامه التسعين ورجل صوفي، في سجن جومان مع الاسرى، لكي لا يبقى بديلاً غير العائلة،
قاموا بمطاردة أطفال هؤلاء الذين هربوا الى الحقول، وتم صيدهم وقتلهم كالأرانب في العشب.
تقول الشاعرة الامريكية جنيفر ميدن إنه دائما من سوء الحظ تذكر مأساة دفن الجنود العراقيين، حوالي 60 ألف، أحياء بواسطة كاساحات رمل غمرت ملاجئهم بالتراب والذهول والصمت عام 1991.
” لقد دفنا الحرب.إنها دائما
مسألة جندي واحد في الرمال،
على بطنه، لم يصدق أين هو
ويرى دبابة بكبر الولايات المتحدة
التي يحب أفلامها وفيها ما يزال
ابن عمه يعيش ،
تصل فوقه
وتأخذ هواءه، وتملأ رئتيه بالتراب”.
جنيفر أمريكية تتوجع من جريمة دفن جنود عراقيين، 60 الف ضحية، لأنها الضمير الحي اليقظ فارق الانسان عن الوحش البشري المقنّع،
من حسن الحظ انها ليست عراقية وإلا كنا سنغرق في تفاصيل مختلفة،
لأن العراقي سواء كان جندياً أم لا ،
لا يصلح جملة شعرية ، الغزل مخصص للبلابل والفراشات والعصافير الصناعية .
جنيفر ليست الشاعرة الوحيدة التي أدانت الجريمة بل هناك شعراء وشاعرات في أمريكا والغرب أدانوها،
نحن لا نُقتل برصاصهم بل بسخف تفكيرنا وحماقة معاييرنا وموت ذاكرتنا،
كيف يحترمنا العالم اذا كنا لا نحترم أنفسنا؟
لا أحد في العراق تحدث عن ذلك لهذ السبب أفرطوا في قتلنا.
لماذا تقيم الدول والشعوب النصب التذكارية في الشوارع والساحات العامة لضحايا الحروب؟
لكي لا تنسى، لا تصفح، لا تتكرر، وتردع، جعل القتلة أحياءً في الذاكرة.
حين سئل يومها ديك جيني وكان وزيرا للدفاع عن مبرر هذه الجريمة، جريمة دفن آلاف الجنود العراقيين أحياء في خنادقهم بدون قتال وبعضهم أعلن استسلامه، وكان ذلك، وهنا الجريمة الأكبر بعد وقف إطلاق النار، أجاب هذا الوزير ونائب الرئيس ،
” نعم، حصل ذلك. لكن تصوروا ماذا كان سيفعل هؤلاء لو ظلوا على قيد الحياة؟”.
تفاصيل جريمة دفن الجنود العراقيين أحياءً في حرب الكويت 1991 بكاسحات رمل من مسافة نصف كيلم هي الجريمة الثانية في التاريخ عندما قامت القوات النازية بدفن الجنود السوفيت أحياء واعتبرت جريمة حرب في محاكم نورنبيرغ للنظام النازي.
الجريمة المنسية أو المخفية من ذاكرتنا، موثقة في كتاب الكاتبة الفرنسية كريستين عبد الكريم ديلان بعنوان: ” الحرب القذرة النظيفة”
عن دار: لي شارش ميدي إيدتير- باريس، نقلاً عن وثائق وشهادات ضباط أمريكان بالأسماء الحقيقية والتواريخ، مع شهادات صحف: واشنطن بوست وهارل تربيون الأمريكيتين، وصحيفة الغارديان البريطانية بعنوان في شهر أيلول 1991: ” دفن جنود عراقيين أحياءً”.
تقول الكاتبة كريستين :
” يوم 17 يناير ـــ كانون الثاني 1991 في الساعة الثالثة صباحا تحت لافتة عاصفة الصحراء التي انطلقت بإطلاق مائة صاروخ توماهوك من البحرية الأميركية الراسية في مياه الخليج. ومنذ الساعات الأولى من القصف الجوي تم تدمير 90% من محطات الطاقة الكهربائية وأربع محطات كبرى لضخ المياه من مجموع سبع محطات يمتلكها العراق، كما تعرضت أغلب مواقع النفط ومخازن الوقود إلى جانب مراكز التموين الغذائي والمواقع المدنية من مساكن ومدارس ومستشفيات ومراكز اتصال وغيرها إلى عمليات قصف مسترسل”.
النص الأخير قد يجيب على سؤال: لماذا مشكلة الكهرباء لا تحل؟ ضرب الكهرباء هو ضرب المستقبل لأن الكهرباء ليست اضاءة فحسب بل الجامعة والمستشفى ومراكز الابحاث والعلم والتواصل مع العلوم والمزاج والحالة النفسية وعرقلتها بطرق خفية حتى اليوم قرار سياسي امريكي.
لكن قبل ذلك علينا الكف عن الخفة العقلية في أن أهل مكة أدرى بشعابها، مكة اليوم ليست منعزلة في صحراء بل تحت انظار العالم على مدار الساعة من غرف النوم وجماعة نحن في العراق ونرى الواقع ونعرفه،
كما لو أن واقع السياسة في دكاكين العطارين أو الشوارع، هؤلاء غشم ولا يعرفون من هم لكنها غطرسة الجاهل وثقة الاحمق.
الكولونيل مورنيو قائد الكتيبة الثانية في “الفرقة الحمراء” المنفذة حرفياً قال: “إن عملية الدفن التي تمت كانت عملية تكتيكية عسكرية دقيقة للقوات الأمريكية ومن بين مخططي العملية كان هناك المهندس ستيفن هاوكيش في الفرقة الأولى الذي قام ببناء معسكر تدريبي في الأراضي السعودية من أجل تدريب وتعليم الجنود على عملية دفن الجنود أحياء في خنادقهم”.
جريمة بحجم دفن آلاف الضحايا أحياءً لم يسمع بها أحد، أمر صادم لا يقل غرابةً عن الجريمة: تدربوا مسبقاً على جريمة الدفن، أي مع سبق الإصرار. بمعنى أدق: الإعدام المسبق.
في أي دولة في العالم ـــ غير العراق ـــ كان سيؤدي هذا الكشف الى ضجة وفضيحة وحملة كبرى ومطالبة بفتح تحقيق لكننا مقبرة
لذلك لن يتوقفوا عن القتل لانهم بكل بساطة يعرفوننا جيداً، جيدا ً بدقة مجهرية.
سنختلف على “رقم” الضحايا لا على الجريمة مع ان دفن انسان حياً هو جريمة وقتل للناس جميعاً لكن هذه” عقلية الرقم”، مع أن عدد القتلى على طريق الموت في سفوان البصرة بعد الانسحاب بلغ 25 الف بعد قرار وقف اطلاق النار ومجموع ضحايا الغزو المشؤوم من العسكريين والمدنيين بلغ 250 ـــ 300 الف، والنظام تستر على الاعداد وكذلك الولايات المتحدة والكونغرس كما ان الدكتاتور الارعن وضع الاف الجنود في الصحراء في خنادق ثابتة مكشوفة على الحدود بلا طيران حماية بل تحت طيران امريكي غربي حديث،
وقياس الطاغية على حرب الخنادق الثابتة كما في حرب ايران وهو اسلوب منقرض في استراتيجيات الحروب الحديثة.
الصين في مشكلة مع اليابان مستمرة حتى اليوم وعلاقات متوترة وتطالب بالاعتراف والاعتذار والتعويض عن جريمة قتل أسرى صينيين قبل قرن،
الجزائر في صراع مع فرنسا حول القضية نفسها، أوروبا تعتذر لجرائمها في دول كثيرة،
لا أحد يعترف أو يعتذر لنا لأننا ببساطة لا ندري ولا نعرف وحتى لا نريد أن نعرف،
مع ان الولايات المتحدة تحتل العراق اليوم بـــ 12 قاعدة عسكرية مع هيمنة سياسية في احتلال مبرقع وهذه الجرائم لا تسقط بتعاقب الزمن .
في تصريح للعقيد الامريكي انتوني مارينو قائد الوحدة الثانية من الجيش الأميركي: ” قتلنا آلاف الجنود العراقيين”،
وأضاف: “بأنه قد رأى العديد من أذرع الجنود العراقيين الماسكة بالسلاح وهي تتململ تحت التراب”.
أضاف الكولونيل مورينو لصحيفة واشنطن بوست بوقاحة:
” “بعد تنفيذ العملية ونظرا لبشاعة الموقف المقزز وللخشية من قدوم الصحفيين فقد تمت عملية مسح الرمال وتغطيتها من خلال معدات وأجهزة حربية أخرى لإخفاء المجزرة وأي اثر لها”.
مجزرة Mỹ Lai-massakren ماي لاي 1968 في فيتنام التي ارتكبها جنود امريكان خلال الحرب الفيتنامية ذهب ضحيتها 5 مئة فرد هزت العالم وكشفها الصحافي سيمور هيرش الذي كشف عن فضيحة سجن أبو غريب مؤلف: القيادة الأمريكية العمياء، حائز جائزة البوليتزر أرفع جائزة ادبية وثقافية أمريكية لكشفه المجزرة.
صحيفة التايمز البريطانية ومانفستو الايطالية في التاريخ نفسه، وصحف أمريكية شهيرة مثل الهيرال تربيون وواشنطن بوست، تعرضت للجريمة بعناوين متقاربة:
” (إن عملية دفن الجنود العراقيين وهم أحياء لم تكن عملية معزولة
وأنما كانت عملية تكتيكية عسكرية دقيقة للقوات الأميركية).
بمعنى جريمة مخطط لها مسبقا ولم تنتجها ظروف معركة. لكن ولا صحيفة عراقية امس واليوم تناولتها ولا ذكر لها في الأدب والفن والرواية مع أن غابريل ماركيز كتب روايته الشهيرة” مئة عام من العزلة” عن مقتل عمال الموز في إضراب وهم أقل من الثلاثين ضحية وحاز على نوبل بسببها وهو صبي عند المذبحة والفنان بيكاسو رسم لوحة الغارنيكا عن قصف الطائرات الفاشية الايطالية لقرية اسبانية وقتلى بالعشرات.
بلا أي جدارية تذكر بهذه الجريمة للردع أولا من أجل الأحياء، أو لذكرى الجنود الضحايا، ثانياً، أو أقلاً، أقلاً، إحتراماً لأنفسنا لكي يحترمنا العالم ولا ينسانا كما اليوم.
إسرائيل تستعيد بقايا أشلاء الجندي المفقود زخاريا باومل منذ اجتياحها لبنان في 1982 وعمليات توغل في سوريا من وحدات خاصة للبحث عن أشلاء طيار فقد قبل أربعين سنة.
قال الملازم وير متبجحاً : “لقد ابدناهم. وقعت المذبحة بعد اعلان وقف اطلاق النار”.
من غير المعقول ان جندياً مختنقاً تحت الرمل ومدفوناً ويظل يحمل سلاحاً، كما صرح قائلا انه رأي اذرع جنود تحمل بنادق تظهر من الرمال،لكنها الذريعة المنحطة لتبرير الجريمة.