فراج إسماعيل يكتب :بي نزعة تصوف موروثة

أنا من محبي الشيخ متولي الشعراوي رحمة الله عليه. وبي نزعة تصوف موروثة من قريتي، فجدنا هو القطب الصوفي الشيخ علي محمود الأسمنتي رحمه الله، أحد شيوخ الطريقة الخلوتية، وليس بعيدا عنا ساحة الشيخ الطيب رحمه الله، والد شيخ الأزهر، وهي الساحة التي كانت ولا تزال ملتقى أهل القرى لحل المشاكل التي تنشأ بينهم دون وصولها إلى القضاء.
وأتذكر وأنا في بداية تدريبي بجريدة الجمهورية أن أرسلني رئيس القسم الديني الأستاذ عبداللطيف فايد رحمه الله ومعي الزميل الأستاذ محمد خضر الذي يشغل حاليا رئاسة القسم الديني في جريدة المدينة السعودية، لتسليم مبالغ نقدية لمتسابقين فائزين في حفظ القرآن الكريم وكانوا جميعا من قرية القرنة – أصبحت مدينة حاليا- غرب الأقصر.
فكرنا أن يكون التسليم من ساحة الشيخ الطيب، وكان خضر وهو صوفي من الوريد إلى الوريد وحافظ للقرآن الكريم يفكر في مصافحة القطب الصوفي الشيخ الطيب، والد شيخ الأزهر، وكانت مجرد المصافحة أمراً صعباً.
فوجئنا بأن أحد المحيطين به أخذنا إلى غرفته، وصافحناه، كان ذلك في أواخر حياته، وسألني بلطف بالغ عن شيخ في قريتي، هل عايش ؟.. وسألناه الدعاء، فدعا لنا بالرزق. لم يمر الشهر إلا وسافر خضر للسعودية للعمل في جريدة المسلمون، شقيقة جريدة الشرق الأوسط، ولم يمر وقت طويل حتى لحقته إلى الجريدة نفسها.
مواقف اختزنها وأحسبها إرادة الله طبعا، لكن نزعتي الصوفية تلتمسها في بركة الدعاء.
وعندما تولى ابنه الشيخ احمد الطيب مشيخة الأزهر، طلب مني الإعلامي السعودي الكبير داود الشريان وكان يقدم برنامج “واجه الصحافة” في قناة العربية، أن بستضيفه في البرنامج، فاتصلت به، ولم يكن قد تحدث بعد للإعلام، ولما وجدته مترددا أو بالأحرى رافضاً بأدبه وحسن معاملته المعتادين، لجأت إلى بركة المصافحة وحكيتها له، فوافق فورا وظهر في البرنامج.
زرت الشيخ الشعراوي مرة في بيته بجانب مسجد الإمام الحسين مع الأستاذ عبداللطيف فايد، ورأيته غير مرة في الحرم المكي قريبا من الكعبة المشرفة.
بعد وفاته طلب مني الأستاذ هاني النقشبندي رئيس تحرير مجلة المجلة رحمه الله أن أزور بيته في قريته “دقادوس” ميت غمر بمحافظة الدقهلية، حيث يوجد ضريحه هناك، وأن أكتب تقريرا مصورا.
عندما عدت ليلا بعد معاناة السفر، وجدت سيارتي التي كنت أركنها في جانب من شارع جزيرة العرب في المهندسين قريبا من مقر مكتب المجلة، قد تحطم جزء كامل منها بما يوحي بأن سيارة دخلت فيها. لم أجد من أسأله.. وحدثتني نفسي بأن هذا التقرير الذي سأكتبه جاء عليَّ بالخسارة. وقبل أن أبحث عن وسيلة مواصلات تنقلني إلى بيتي البعيد، هرول رجل بورقة بعد أن أدرك أنني صاحب السيارة، وأعطاني إياها وعليها رقم تليفون واسم صاحبها. وعندما كلمته طلب أن أزوره في مكتبه وكان في منصب مرموق بشركة كبيرة في منطقة العجوزة، غير بعيد عن المكان.
أخبرني أن ابنته دهمت السيارة وأنه سيرسل لنقلها، ولما رفضت وقلت إنني لا أقبل العوض، رد بأدب: ليس عوضاً.. عندنا مركز صيانة كبير تابع للشركة وسيقوم بإصلاح ما دمرناه.. وقد حدث، وعادت السيارة كأنها جديدة.
حتى هذا الموقف فسرته بإرادة الله طبعا، وبركة الشيخ الشعراوي.
ليلة أول أمس جرى إتصال بيني وبين الداعية الإسلامي الكبير الشيخ عصام تليمة المقيم في اسطنبول بتركيا. جرت المكالمة عن مآثر الشيخ، وخلالها صحح لي بعض ما نشرته عن سجدة الشيخ بعد هزيمة يونيو، والتي كشفها الشيخ بنفسه للمذيع طارق حبيب، قبل وقاته تقريبا بسنتين، بأنه سجد لله شكرا، وشرحها بقوله أإنه سجد لأننا “لم ننتصر، ونحن في أحضان الشيوعية، لأننا لو نُصرنا ونحن في أحضان الشيوعية لأُصبنا بفتنة في ديننا، فربنا نزهنا”.
تحدث الشيخ عصام تليمة عن أسرار بعد هذه السجدة التي كانت في القاهرة في حضور ابنه، وقال الشيخ أنه استنكرها عليه.
قال الشيخ عصام: للشيخ الشعراوي موقف بطولي بعد هذه السجدة، إذ كان مدير مكتب شيخ الأزهر حسن مأمون رحمه الله، وكتب كلمته التي كان سيلقيها في مؤتمر بمجمع البحوث الإسلامية في سبتمبر 1968. بحضور وفود من علماء الأمة، وحسين الشافعي مندوبا عن الرئيس عبدالناصر، وفيها انتقد أحوال البلاد التي أدت إلى الهزيمة، مما تسبب في ضجة وأزمة كبيرة، وعرف المسؤولون من شيخ الأزهر أن وراءها الشيخ الشعراوي ولكنه – شيخ الأزهر – أخبرهم أنه يتحمل مسؤوليتها وطلب اعفاءه من منصبه لظروف صحية، وأعفي بالفعل وتولى المشيخة الشيخ محمد محمد الفحام رحمه الله، وتقرر إعارة الشعراوي إلى الجزائر ولم يعد إلى مصر إلا بعد تولي السادات.
وأول من أشار إلى هذه القصة الدكتور محمد رجب البيومي في الجزء الرابع من كتابه “النهضة في سير أعلام المعاصرين” صفحة 373.
في الكلمة الواردة في مضبطة المؤتمر بدءا من صفحة 11: ولست في حاجة إلى تشخيص ما ألم بالعرب والمسلمين من ألم، فكل نفس ذاقت وقعه ولمست لذعه وما زالت العقول في دهشة من شذوذ هذا الغلب، وزاد من مرارة الجرعة أن كان ذلك أمام صهيونية أفاقة قطعها الله في الأرض وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله.
أيها العلماء في مواجهة هذه الأحداث، تشخيص داء وتحضير دواء وحكمة مناولة حتى تجل للناس حكمة الله في هذا الابتلاء وتقرأ عليه قوله سبحانه “ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب” ولهذا كان لقاؤكم في هذه الدورة علماء المسلمين أخطر ما واجهتم من لقاءات.
ثم يصل إلى الفقرة: إن نكبة النكسة التي واجهت أمة العرب وشعوب الإسلام لم تكن محنة سياسية بقدر ما كانت محنة دين، فمن الجائز على سياسة البشر أن تخطئ تخطيطا أو تخور مواجهة ولكن ليس من الجائز أن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. فحين صدم المسلمون بما كان عجبوا أن يتخلى عنهم ربهم ، ولو أنهم أنصفوا لعرفوا موقعهم من دين الله ولأدركوا أنه ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل وليس الإسلام شكلية أسماء ولكنه موضوعية اقتداء ولا هو جغرافية مواطن ولكنه نفاسة معادن.
ولا أشك وحضراتكم معي أننا لو انتصرنا ونحن على ما كان في مجتمعنا من خللٍ وانحراف لأزددنا جرأة على محارم الله ولجعلنا النصر شهادة على صدق التحلل وسلامة الإنحراف وصواب الإنفلات من حضرة الله ومبادئ الإسلام.
ولهذا كانت الهزيمة غيرة علينا من الله لأن فينا وجدان الدين وإن لم يكن لنا سلوك المتقين فحاسبنا ربنا لنرجع إليه وابتلانا لنقبل عليه، وذلك قانون الأحباء يحتم مرارة الجرعة تقريبا لحلاوة الشفاء، فعلينا معشر العلماء أن نبين للناس أن الله لا يتغير من أجلنا ولكن يجب أن نتغير نحن من أجل الله. وعلينا أن نفهم المسلمين أننا لسنا أصدق إيمانا ولا أحسن إسلاما من صحابة رسول الله، فإنهم حين خالفوا عن أمر الله غرورا يوم حنين ومخالفة لأمر الرسول يوم أحد، هزموا ردا عن الغرور وردعا عن المخالفة. علينا أن نعلم المسلمين كيف يستقبلون سجال الحرب من يوم لنا ويوم علينا فالذي لنا لا يغرنا بل يقربنا والذي علينا لا يهدنا بل يهدينا