رؤي ومقالات

د.محمد إبراهيم العشماوي يكتب :هل مال الغناء حرام؟

أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف

تأملت أقوال العلماء في الغناء، فوجدتها تنتهي إلى أن حَسَنه #حَسَنٌ، وقبيحه #قبيح، وأن ما كان منه حسنا فلا شك في #إباحته، وما كان منه قبيحا فلا شك في #حرمته، والشرع هو معيار التحسين والتقبيح، وليست الأهواء والآراء، وهذا التفصيل هو الذي ينبغي أن يكون معتمد من يفتي في المسألة، خلافا لمن تشدد فحرم بإطلاق، أو تساهل فأباح بإطلاق!
والحق أنه لا ينبغي أن يُختلف في حرمة الغناء المهيج على #الشهوات، والمحرض على رذائل الأخلاق، والداعي إلى الميوعة والانحلال، ونحو ذلك من الأغراض المحرمة شرعا، ولو كانت بالكلام العادي لا بالغناء!
ولا أن يختلف في حرمة غناء المرأة؛ إذا ترتب على سماعها #فتنة، ولو كان الكلام مباحا، كما لو غنت بصوت مهيج، أو بكلمات مثيرة، أو بأداء مُغْرٍ، أو بعورة مكشوفة، حتى كره بعض الفقهاء أن ترفع صوتها بالأذان، أو بقراءة القرآن!
ولا أن يُختلف في حرمة #الأغاني المختلطة بالآلات الموسيقية المختصة بأهل اللهو والمُجون!
ولا أن يختلف في حرمة #إدمان الغناء، بحيث يصير عادة مستمرة له، لا يمكنه الاستغناء عنها؛ لأن ذلك ينبت النفاق في القلب، ويورث رقة الدين!
والحق أيضا أنه لا ينبغي أن يُختلف في إباحة ما سوى ذلك من أنواع الغناء، كتلك الأغاني التي تحض على #الفضيلة، ومكارم الأخلاق، وحب الأوطان، أو تشتمل على المعاني الإنسانية النبيلة، كالحب العذري، وكالغزل العفيف، وكمدح النبي صلى الله عليه وسلم، والمواعظ، والرقائق، ونحو ذلك!
ولا أن يُختلف في إباحة الغناء في #الأعراس والأفراح وحالات السرور والانبساط، بكلمات لا تخدش الحياء، ولا تهتك ستر الفضيلة، في جو من #اللهو المباح!
وعلى هذا التفصيل يمكن أن نفهم حكم الغناء!
فما كان منه حراما فالمال المكتسب منه #حرام، وما كان مباحا فالمال المكتسب منه #مباح!
وعليه أيضا يمكن أن نفهم الإجماع الذي نقله النووي في [شرح صحيح مسلم]؛ إذ يقول رحمه الله: “أجمعوا على تحريم أجرة المغنية للغناء”.
وما ذكره العلامة ابن عابدين في حاشيته [رد المحتار على الدر المختار] من قوله: “من السحت ما يأخذه أصحاب المعازف، ومنها – كما في [المجتبى] – ما تأخذه المغنية على الغناء”.
وعليه أيضا يمكن أن نفهم استماع النبي صلى الله عليه وسلم لِجَوارٍ من الأنصار وهنَّ يُغَنِّين له، ويمدحنه، ويضربن بالدفوف بين يديه، صلوات الله وسلامه عليه!
واستماعه إلى غناء جاريتين تغنيان بغناء (بُعاث)، وهو يوم كان للعرب في الجاهلية، وكان غناؤهما مما يشبه الأغاني الوطنية، وإنكاره على أبي بكر إنكاره عليهما!
وعليه أيضا يمكن فهم ما جاء عن الإمام مالك في [المدونة] من عدم إجازته شهادة المغني والمغنية؛ إذا كان الغناء حرفة لهما، وإنما تُرَدُّ شهادة الفساق!
ونص كلامه: “وأما النائحة، والمغنية، والمغني؛ فما سمعت فيه شيئا، إلا أني أرى أن لا تقبل شهادتهم؛ إذا كانوا معروفين بذلك”.
وحكى القرطبي عن مالك أيضا؛ أنه قال في الغناء: “إنما يفعله عندنا الفساق”.
وذَكر عن أبي حنيفة أنه يكره الغناء، وعن الشافعي أنه قال: “الغناء مكروه، ويشبه الباطل، ومن استكثر منه؛ فهو سفيه، تُرَدُّ شهادته”.
وعليه: فالمال المكتسب من هذا النوع من الغناء حرام وسحت، ولا يثاب صاحبه عليه، إذا أنفقه في القربات وأعمال الخير والبر، ولا يُمنع منه؛ لأنه يجوز الانتفاع به في غرض مباح للمنتفع، ويبقى الإثم على المكتسب!
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ”.
وفي لفظ للبخاري: “وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ”.
وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!”.
ولله درُّ من قال في هذا المعنى:
سَمِعْتُكَ تَبْنِي مسجدًا مِنْ خِيانةٍ
وأنت – بِحَمْدِ اللهِ – غيرُ مُوَفَّقِ!
كمُطْعِمَةِ الزُّهَّادِ مِنْ كَدِّ فَرْجِها
لكِ الويلُ، لا تَزْنِي، ولا تَتَصَدَّقِي!
وبالله التوفيق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى