كتاب وشعراء

متاهة الرمزية في رواية “شوك وحيد” لابتهال الشايب …..بقلم د. محمود سمرة

إذا كان الأدب يُخاطب الوجدان، فلا بد أن يكون من غاياته الإمتاع، ويزيد الماهرون عليه غايات أخرى، وإن تجرَّد من تلك الغايات الأخرى لعزونا ذلك إلى التلقي، ولكن إذا تجرد من الإمتاع لأثار القلق، وأخشى أنني فتشت عن الإمتاع في “شوك وحيد” فلم أعثر عليه.
وفي مطالعتي لرواية “شوك وحيد” شعرتُ بصراعٍ ذاتي: هل أزعم فهمي لمراد الأديبة، أم أقف عاجزًا أمام رموزها ومتاهاتها التي ما إن فككتُ بعضها حتى التبست عليَّ أخرى؟ هل سيُحوَّل الأدب إلى لعنة؟ وتذكرتُ قصة “ملابس الإمبراطور الجديدة” للدنماركي هانس كريستيان أندرسن، عندما ادَّعى الجميع رؤية الثياب السحرية التي لا يراها إلا الأذكياء، وما صمتوا إلا مخافة أن يُوصَموا بالغباء، فسار الإمبراطور في موكبه عاريًا.
توقفتُ أمام النص متسائلًا: هل الرمزية غاية في ذاتها؟ بعد قراءة العديد من الروايات المُحمَّلة بالرمزية والغموض، وجدتُ رسائل يخبئها الأدباء خلف ظاهر المعنى، وهكذا فالرواية الرمزية أو فانتازيا النص تأتي لتُخبر بغايةٍ أبعد يُدركها المتلقي ذو القراءة الواعية، إلا أنني خشيت على قدرتي على الإدراك عندما عجزتُ عن استيعاب غاية أبعد من المعاني المباشرة للرموز في “شوك وحيد”.
ولكن، لماذا تلجأ الكاتبة إلى الرمز؟ ربما هروبًا من مواجهةٍ ما، أو لبيان باطن الأمر، أو تحرزًا وخوفًا، أو للتعميم مكانًا وزمانًا. وبالنظر إلى روايتنا هذه، فلم أجد فيها داعيًا لهذا التوتر، ولم أجد ما يبرر اللجوء إلى الرمز والفانتازيا بكل ما فيهما من مشقة في الإدراك وبُعدٍ عن الإمتاع.
وعند الاطلاع على آراء بعض المتلقين، وجدتهم يربطون بين هذا العمل والأعمال الأدبية السابقة للكاتبة “ابتهال الشايب”، فتساءلت: هل يشفع لهذا العمل اتساقه مع ما سبقه من أعمال فانتازيا -إن وُجدت- أم ينبغي أن يكون العمل الأدبي مستقلًا بذاته؟ نحن أمام فرضية مُجحفة، وهي أنه لا يحق لقارئ أو ناقد أن يتناول هذا العمل دون قراءة سابق أعمالها. ولكن، اتساقًا مع حرية الإبداع، يجب أن يستقل النص بذاته عن غيره من النصوص، وعن كاتبته. ولهذا، لم أجد في هذا النص ما يشجعني على أن أنصح غيري بقراءته.
وكأن نفسي تقول لي: “ألا تعتبر هذا تجريبًا في الكتابة التجريدية؟”، فقلتُ لها: “وما التجريدية؟”، فقالت: “هي أن يتجرَّد اللفظ من معناه الواقعي المادي ليرتبط بالشعور”. فقلت: “كلنا نعرف المشاعر، وهي بالفعل ليست مادية، ولكن أليست الألوان والصور والأجسام مادية؟ أنستخدمُ الماديَّ للدلالة على اللامادي، ونزعم أنه تجريد؟”. فسكتت نفسي، وتجاوزتُ الأمر.
وكأني سمعت صوتًا يقول: “على النقد أن يتناول كيفية القول، لا علة القول وأسبابه”. فقلت: “أجل، علينا أن ننظر إلى (كيف قالت الأديبة؟)”. ولما نظرت إلى كيفية قولها في “شوك وحيد”، لم أجد كيفيةً واضحة؛ بل وجدتُ تشظيًّا في العدم، وكان يكفيها أن تقول “لا شيء”.
هذه العبثية تستدعي وجود ثبات سابق، وإلا لكانت عبثًا في حد ذاتها، فلا يزعم زاعمٌ أن ذلك من الأدب في شيء. لا تُفسدوا علينا الأدب! وإن كان فهم دلالات النص مُتاحًا، فلا يوجب ذلك فهم مغزاه لانعدامه، ولو أنني فهمتُ ما قصدتْ، لوجدتُ نفسي أمام لغزٍ مشوَّه لا رونق فيه ولا إمتاع ولا غاية ولا جديد يُذكر.
تعريف المكان بالنص: مكان الأحداث هو “المربع” فضاء معلق في الهواء، تقطنه كائنات بها أجسام لولبية، بلا أقدام، تتحرك بالزحف، ينقسم المربع إلى أجزاء شمالية وجنوبية وشرقية وغربية، ولكل جزء نظامه الخاص، البوابات شمالية تؤدي إلى تغيُّر الواقع (تغيرات مصيرية)، محفوفة بالمخاطر. الهواء الأصفر مصدر غذاء روحي- نفسي، تحكمه السلطة.
البنية السردية داخل النص: لا يتبع النص تسلسلًا خطيًّا تقليديًّا؛ بل يعتمد على التقطيع السردي والتناوبي بين صوتين:
(الوحيد): صوت الشخصية الرئيسية، غارق في واقعٍ رمزي ومجزأ، كائن يعاني من وجه غائر، جسم لولبي، إحساس بالاختلاف والانفصال، لا يشبه بقية سكان المربع، يشعر بأنه “فكرة” لا جسد، يتطلع إلى تغيير واقعه ويثور على ثبات النظام، لكنه محاط بالقيود (الأب – البديل – القوانين – الضوء – المتاهة). وهناك الشبيه هو نسخة قريبة منه، أحيانًا متضامنة، وأحيانًا صامتة.
(القدر العظيم): صوت كلي المعرفة، راصد خارجي، يمنح تأملات فلسفية وشبه تأليهية، ما يضفي على النص بُعدًا ما ورائيًّا.
الفضاء السردي بالنص: المربع هو الفضاء المركزي في النص، لكنه ليس مكانًا حقيقيًّا؛ بل “وحدة رمزية” ترمز للعالم أو الوجود أو الذات الإنسانية.
الضوء، الهواء الأصفر، المتاهة، القنوات الحمراء، الأجسام اللولبية، الخيوط، الشبيه، البديل، البوَّابات الشمالية، كلها رموز محمَّلة بدلالات فلسفية واجتماعية وسيكولوجية.
قد يرمز المربع المعلَّق في الهواء إلى هشاشة الوجود أو بساطته، أو سطحية الظاهر، أو اللا انتماء، واللا جذور.
والوحيد: قد يمثل الذات التي تعي وجودها وتتمرد على السائد.
والأجسام اللولبية في الصدور: قد تمثل القيود النفسية أو المجتمعية.
والضوء: يمكن أن يمثل الحقيقة أو الخلاص، أو العذاب بحسب السياق.
والانغلاق الأفقي للمربع: يرمز إلى النهاية أو الموت أو الانسداد الوجودي.
والغبار: رمز للذاكرة أو النسيان أو الارتباط بالجذور.
أما عن الشخصيات:
الوحيد: بطل متفرد، يمثِّل التمرد والبحث عن المعنى، يعيش صراعًا وجوديًّا.
الأب: يمثل السلطة، التخطيط، القسوة، السيطرة.
الشبيه: انعكاس للذات أو نسخة منها، أحيانًا تابعة مُنقادة، وأحيانًا منافسة، وأحيانًا غاضبة ساخطة.
البديل: قد يمثل المجتمع أو السلطة الموازية، التي تتولى القيادة حين يفشل “الأصل”.
أهل النور: ربما يرمزون للنخبة المسيطرة، أو الحقيقة الصادمة، أو المصير الذي يُصارع الإنسان أن يُغيره ولا يستطيع.
ومن الثيمات التي واجهتها في النص: الهوية والانقسام الداخلي، السُلطة والسيطرة والنظام مقابل الفردانية، القَدرية والحُرية، الفعل والإرادة، المقاومة والهروب والانصهار أو الاستسلام في الواقع.
البحث عن “الوجه” عن الكيان عن الانعكاس للآخر، وكانت الرغبة في الخلاص أبرز الانعكاسات في هذا النص.
لغة النص وأسلوبه: جاءت لغة النص مشبعة بالرمزية، ومحاولة التجريد فيها غير موفقة، فليس من المعقول أن أصف غير الملموس بالمادي وأزعم أن في ذلك تجريدًا، وظهر التوتر في النص إذ يعكس توتر السرد، بتكرار المعنى، وتكرار اللفظ من غير فائدة مرجوة، قفزات مفاجئة في السرد تعكس اضطراب العالم الداخلي للراوي. لا يعتمد النص على الحوار؛ بل على المونولوج الداخلي والتأملات، مما أضفى على السرد رتابة بسبب أحادية الصوت.
جاءت محاولتي لقراءة الرموز والانعكاسات، استقراءً للأحداث وما أرادت الكاتبة أن تبلغه لي، إلا أن تلك القراءة لم تُجدِ نفعًا ولم تبلغ مغزى، ولن أقبل بضياع الوقت في قراءةٍ لا مغزى فيها ولا إمتاع، إذ بعد كشف دلالات الرموز أو الإشارات، ما الداعي لكل ذلك؟ وما الغاية وراء هذه التراكيب الموجعة؟ لا شيء، إلا أننا أمام تجريب جديد، أخشى عدم نجاحه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى