محمد نجم يكتب :الدولار يتراجع.. أمام الجنيه

يبدو أن الاقتصاد المصرى بدأ رحلة الخروج مما سُمى بـ «عنق الزجاجة»، والتى حُشر فيها عام 2022/2023!، حيث شهد تراجع معدلات النمو فى الناتج المحلى، وارتفاع معدل التضخم، وعودة السوق السوداء للتعامل فى النقد الأجنبى.. وكلها ظواهر ومظاهر للتعثر أو التباطؤ الاقتصادى المصحوب بارتفاع أسعار السلع والخدمات نتيجة لأوضاع خارجية ضاغطة، وأخرى محلية تحتاج للتصحيح والعلاج.
فهل لنا أن «نتفاءل» بعد ملاحظة تراجع أسعار الصرف الأجنبى للدولار مقابل الجنيه إلى حوالى 49.5% فى المتوسط لكل دولار؟
تزامن ذلك مع زيادة معدلات نمو الناتج المحلى الإجمالى، والتى بلغت حاليًا حوالى 4% ومرشحة للزيادة خلال العام القادم لأكثر من 4.6%.
يدعم هذا التفاؤل.. زيادة الإيرادات السياحية، وتحسن ملحوظ فى إيرادات المرور بقناة السويس، والأهم الطفرة الكبرى فى تحويلات المصريين فى الخارج بعد تراجع كبير فى السنوات السابقة.
وهل هذا «التفاؤل» قائم على أسس موضوعية وأرقام رسمية، أم أنه توقع أو تمنيات مصحوبة بدعوات المصريين المخلصين؟.
لابد أولاً من التذكرة أننا عانينا من أوضاع اقتصادية صعبة خلال السنوات السابقة، بداية من الآثار السلبية للكورونا، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وبعدها تجدد الاعتداء الإسرائيلى على الأشقاء الفلسطينيين، من 7 أكتوبر 2023 وحتى الآن، وبدون بارقة أمل لخطوات جدية لوقف الحرب!.
تمثلت تلك الأوضاع الصعبة السابقة فى تراجع معدلات النمو، وارتفاعات متتالية فى الدين العام، وخاصة الأجنبى منه، مع موجة تضخم رهيبة، وتراجع حاد فى موارد البلاد من النقد الأجنبى، وخاصة الدولار، العملة الرئيسية لتمويل الواردات، وسداد أقساط الديون.
ثم.. بمشيئة الله.. وجهود مصرية مخلصة، عاود الاقتصاد المصرى التقاط أنفاسه، ثم دبت فيه الحركة.. وبدأ العودة المأمونة للأوضاع السابقة قبل الأزمة الأخيرة.
بدأت هذه الجهود بالسعى لتوقيع اتفاق مع صندوق النقد لبرنامج جديد للإصلاح مع توفير تمويلات بمقدار 12 مليار دولار على مدى سنوات البرنامج الأربعة.
تزامن مع ذلك.. نجاح الحكومة بتوقيع اتفاق استثمارى ضخم مع الأشقاء فى الإمارات لاستغلال بعض الأراضى فى منطقة رأس الحكمة بمليارات الدولارات.. مع استثمارات خارجية أوروبية وخليجية أخرى.. ساهمت فى تدفق الدماء إلى شرايين الاقتصاد المصرى، وساعدت البنك المركزى فى بدء تطبيق سياسة نقدية جديدة لاستهداف خفض التضخم، والقضاء على السوق السوداء للدولار.
وبدأت أولى تلك الخطوات فى 7 مارس 2024 بتحرير التعامل فى النقد الأجنبى طبقا لآليات العرض والطلب فى السوق، مع زيادة أسعار الفائدة على الإيداعات فى البنوك إلى 28%، ذلك مع دعم دولى تجاوز الـ 50 مليار دولار من مساعدات واستثمارات خارجية.
كما بدأت الدولة والحكومة فى تطبيق سياسات مالية واجتماعية جديدة لمحاصرة التضخم وضبط العجز فى الموازنة، مثل خفض الدعم وخاصة فى المشتقات البترولية، وترشيد النفقات وترتيب الأولويات، وتحريك برنامج الخصخصة، وتحفيز القطاع الخاص على القيام باستثمارات جديدة والتوسع فى الاستثمارات القائمة.
أسفرت كل هذه السياسات والإجراءات المتزامنة إلى ثبات نسبى فى سعر الصرف مع التراجع التدريجى وهو حاليًا 49.5ج لكل دولار فى المتوسط، مع تراجع أسعار الفائدة إلى 25% وانخفاض معدل التضخم إلى حوالى 15% فى يونيو الماضى، بل وزيادة الاحتياطى من النقد الأجنبى إلى حوالى 49 مليار دولار فى ذات التاريخ، وهو ما يكفى لتغطية الاحتياجات من الواردات الخارجية لمدة 6 شهور.
حتى الآن.. المؤشرات الكلية للاقتصاد فى تحسن.. من حقنا أن نتفاءل، فقد عادت الدماء تتدفق فى الشرايين، فماذا عن المستقبل القريب؟!
لابد أولا من التأكيد على أن زيادة الموارد الخارجية هى الحل الأمثل لتحسين الأحوال الداخلية.
وتلك الموارد تتمثل فى خمس مصادر معلومة.. ومشكلتها أنها شديدة التأثير بما يحدث فى العالم خارجيا، وكذلك بالجدية والسرعة فى تنفيذ إجراءات الإصلاح محليا أو العكس.
وأعلى هذه المصادر للنقد الأجنبى، هى تحويلات المصريين فى الخارج والتى بلغت مؤخرًا أكثر من 33 مليار دولار، وبنسبة زيادة 70% عن العام السابق، فقد كانت 23 مليار عام 2022، ثم ارتفعت إلى 25 فى نهاية عام 2023، وتحسنت تدريجيا إلى أن بدأت فى العودة إلى معدلاتها الطبيعية، والتى كانت عليها فى العام المالى 2022/2023.
وبالطبع لا يخفى على أحد أن هذه العودة الميمونة بسبب ارتفاع الفائدة فى البنوك المصرية، والقضاء على السوق السوداء، وثانى هذه المصادر.. هى عوائد الصادرات المصرية.
مع ملاحظة أننا لدينا عجز مزمن فى الميزان التجارى، فإجمالى حجم الميزان بلغ مؤخرًا فى نهاية العام الماضى حوالى 108 مليارات دولار، منها 72 مليارا، واردات، و32.5 صادرات، وبلغ العجز 39.5 مليار.
ولكن فى أبريل الماضى بدأت مؤشرات تراجع هذا العجز الشهرى إلى 3.42 مليار بعد أن كان 3.78 فى الشهر السابق، حيث ارتفعت الصادرات بنسبة 19% وبلغت 4.10 مليار وانخفضت الواردات بنسبة 4.5% وبلغت 7.23 مليار.
وهناك خطة وإجراءات حكومية لتخفيض هذا العجز والارتفاع بقيمة الصادرات إلى 100 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
وثالث الموارد هو عوائد النشاط السياحى، فمصر تتمتع بتنوع المنتجات والمقومات السياحية وتستهدف استقبال 30 مليون سائح سنويا بحلول عام 2030.
وقد بلغت الإيرادات السياحية خلال العام الماضى حوالى 14 مليار دولار، مقارنة بحوالى 11 مليار فى العام السابق، استقبلت مصر أكثر من 9 ملايين سائح فى النصف الأول من العام الحالى، بزيادة 22% عن العام السابق.
ويتوقع أن يحقق النشاط السياحى حوالى 16 مليار دولار بنهاية العام الحالى، خاصة أن لدينا 5 آلاف غرفة فندقية جديدة، و18 ألف تحت الإنشاء.
ورابع هذه المصادر هو الاستثمار الأجنبى المباشر والذى بلغ ذروته فى العام المالى 2023/2024، حيث بلغ 46 مليار دولار، وكان 10 مليارات فقط فى العام المالى الأسبق.
وكانت أعلى الاستثمارات من الإمارات بنسبة 70% (مشروع رأس الحكمة)، ثم أمريكا بنسبة 5.5%، وإنجلترا 5.2%، وإيطاليا 4.7%، وقد توجهت هذه الاستثمارات إلى أنشطة مختلفة، منها الإنشاءات بنسبة 64%، والخدمات 16%، والصناعة التحويلية 8%، والنفط بنسبة 8%، ولكن هذا الاستثمار الأجنبى المباشر تراجع هذا العام إلى حوالى 10 مليارات دولار، ويتوقع عودته للارتفاع التدريجى ليصل عام 2027 إلى 16.5 مليار دولار.
المورد الخامس.. يتمثل فى عائد المرور بقناة السويس الذى حقق أكثر من 10.5 مليار دولار حتى يونيو 2023.
وبسبب أحداث البحر الأحمر من قبل الحوثيين اليمنيين تراجع العائد العام الماضى بنسبة 61%، وكانت الحصيلة 4 مليارات دولار فقط.
ولجأت السلطة المسئولة عن القناة إلى التوسع فى الخدمات ومناطق التخزين، وإقامة بعض الصناعات البحرية لتعويض هذه الخسائر، مع تزامن اجتذاب المنطقة الاقتصادية للقناة حوالى 8.3 مليار دولار فى صورة استثمارات خارجية فى حوالى 272 مشروعا.
***
وهناك مورد أجنبى آخر ولكنه «مؤقت» وهو المساعدات والمعونات الخارجية المرتبطة ببعض الأحداث، ومنها المساعدات الأمريكية التى تقلصت كثيرًا، أيضا قروض البنك الدولى وصندوق النقد الملازمة لبرامج الإصلاح.
***
بعد استعراض البنود المختلفة للموارد الخارجية، مازال التفاؤل قائما، يؤكده وجود احتياطى من النقد الأجنبى يغطى 6 شهور من الواردات (المعتاد ثلاثة شهور فقط).
وتزايد عوائد النشاط السياحى، المرجع لتحقيق طفرات ملحوظة سنويا.
وأيضا.. عائد المرور بالقناة.. ثم الزيادات الملحوظة فى الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمرشحة أيضا للزيادة التدريجية سنويا.
يبقى العنصر الأخير والمهم، والذى يمكن أن نبذل فيه جهدًا إضافيًا، وهو زيادة الصادرات من خلال ما يسمى بـ «توطين الصناعة الأجنبية محليا»، ومنها صناعة السيارات، وأيضا التسارع فى عمليات التعدين.. فالأبحاث والاستكشافات تقول إن الأرض المصرية تحتفظ بكنوز من الذهب والفضة والنحاس والكوارتز ومعادن أخرى كثيرة تستخدم فى صناعات متعددة.
والمعنى.. أنه يمكن هزيمة الدولار ولو بالنقاط!!