رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : أوهام الحشود

ـــــــــ ـــــ “لأننا فشلنا في تكوين إنسان يفكر لم يتكون لدينا شعب، بل تشكل لدينا جمهور، جمهور مصفق، وجمهور لاعن ،يصفق مرة، ويلعن مرة لكنه لا يفكر.” * إميل سيوران.
الجموع التي تردح في الشوارع وتريد إسقاط النظام هل تعرف حقاً ما هو” النظام”؟ منذ القرن الماضي _ اذا كان ماضيا _ وحتى اليوم تعتقد الجماهير أن النظام هو وزارة الدفاع أو القصر الجمهوري من تقاليد الفكر الانقلابي الراسخة في التغيير الرأسي وليس الافقي الاجتماعي: النموذج التركي المجاور كمثال للتغيير الافقي منذ عشرينات القرن الماضي وفشلت كل الانقلابات العسكرية لانها بلا بيئة وحاضنة وفي مواجهة مؤسسات وثقافة اجتماعية ومصدات واقية .
في كل مرة يتم الانقلاب على الرئيس في العراق وقتله أو نفيه والسيطرة على المقر الرئاسي،
لكننا نكتشف أن” النظام” نفسه وقد يكون الأسوأ، لأننا نبحث عنه في المكان الخطأ.
النظام اليوم وأمس ليس في عبور جسر الجمهورية، ليس في السيطرة على المباني الحكومية، ليس في حرقها أو إتلافها،
ليس في طلاء القصر الرئاسي، ولا تغيير النشيد الوطني والطوابع والاناشيد والصور لأن البدائل جاهزة لسنوات قادمة.
الجموع التي تطالب بإسقاط النظام هي المنتج الحقيقي للنظام، السلطة السياسية نتاج السلطة الاجتماعية وليس العكس، الجمهور الذي يواجه الرصاص في الشوارع ،
يقع في خطأ مهلك في تحديد هوية السلطة كمكان أو مؤسسة بل السلطة عقلية ونظام تفكير وذهنية وحيازة المال والناس والحقيقة.
النظام السياسي موجود فينا، في المناهج المدرسية والقسوة وعقلية الوصم والاختزال، في ذهنية الغطرسة والتباهي الفارغ وفي التمركز الذاتي بحيث يشعر اي خبل ومعتوه ونرجسي خفي وسيكوباتي انه محور عالم بلا بشر ولا كوارث ولا جمال ولا احلام ولا مسرات وليس للناس من هم وغم ومشاريع غير التربص به ومطاردته والتفكير به والعالم على حافة هاوية وامام مخاطر جدية وعلى سطح الكوكب ثمانية مليارات من البشر من غير البحار والجبال والصحارى والكلاب والبزازين والمخلوقات الاخرى والفضاء اللامتناهي .
خرج الالمان من النازية بعقدة الشعر بالذنب وتوجهوا نحو البناء وخرجنا من الدكتاتورية بعقدة الانتفاخ الذاتي المرضي وتوجهنا نحو التخريب .
النظام في العقل السياسي الرث، وفي البيوت التي تحولت الى سجون وثكنات اسرى للنساء والاطفال وذهنية تحريم العلم والمعرفة والموسيقى والفن والسؤال عن المصير,
البيوت _ المعتقلات التي تركها المحتجون خلفهم وذهبوا لاسقاط “النظام”,
الموجود فيهم وهم ذهبوا في الطريق الخطأ.
الخطأ الفادح والفكرة الإنقلابية القاتلة في أن السيطرة على القصور هي
سيطرة على النظام، السلطة في التفاصيل المجهرية وثقافة الغلبة والعنف،
وفي السيطرة الذكورية وفي النساء المتواطئات في تدجين البنات لاننا نربى من ذكرين والامهات يستعملن معايير الذكور.
النظام في التاريخ التخيلي غير الموثق وفي الاساطير الاجتماعية،
في عقلية تعشق المظاهر وتحترم القوة، في النظام الأبوي الصارم والطاعة العمياء، في الافكار النمطية والقوالب الجاهزة وفي تحريم الاختلاف،
في عقلية الاقصاء والتشهير والشعور الزائف بمُلكية الحقيقة
والشرف والتاريخ والوطن.
الجموع التي تردح في الشوارع تريد إسقاط النظام وهي لا تمتلك صورة تاريخ مغاير ولا قصة حياة جديدة على وشك الولادة لا تدري أنها رسخت وجذرت النظام، وجعلته أكثر صلابة وتماسكاً،
لأن النظام يتماسك أكثر في الخطر رغم كل الخلافات، والخطر يخلق هوية مشتركة بين اللصوص المداهمين،
كما يخلق خطر غرق باخرة هوية مشتركة بين مسافرين من أعراق مختلفة،
أو حريق عمارة أو مصعد عاطل أو ضياع في صحراء كما ان الخروج المتكرر لاسقاط النظام بلا نتيجة أفرغ الناس من طاقة الحماس للتغيير وكان عملية تنفيس مستمرة للغضب وتسريب له في غير وقته ومكانه لذلك حلت في السنوات الأخيرة فترة من الصمت اليائس.
هذه الجموع بصرف النظر عن الدوافع لن تسقط النظام السياسي ولو عبرت ألف جسر وأحرقت كل القصور،
لأن هذه الجموع نفسها تحمل في أعماقها بنية جديدة لنظام قمعي
جديد والعقل السياسي نفسه.
الجمهور الذي يفتقد للحنان والشفافية واللطف والحب والرهافة، وبلا رؤية عميقة للماضي والحاضر والمستقبل، و سياسة بلا ثقافة وثقافة بلا سياسة،
هو جمهور ذاهب لبناء مسلخ بشري.
لا يمكن أن تذهب لاسقاط نظام في بناية، وفي رأسك نموذج قد يكون أكثر قسوة منه. كيف تتحقق العدالة السياسية والعدالة الاجتماعية غائبة؟
كيف نطالب بالانصاف السياسي والانصاف الاجتماعي غائب؟
كيف نريد الوضوح والشفافية والصدق من النظام السياسي وهي قيم لا وجود لها في النظام الاجتماعي؟
هذا النظام السياسي من هذا الرحم الاجتماعي فلماذا الدهشة؟
النظام السياسي ليس مؤسسة أو عمارة أو ثكنة أو مقرأً،
بل هو شبكة معقدة خفية من مفاهيم وقيم وقناعات وافكار في صميم هندسة النظام الاجتماعي، ولن يتغير الأول ما لم يتغير الثاني،
وإذا كان المطلوب تبديل النظام، فهناك طابور وطبقة سياسية جاهزة ومستعدة تحمل نفس علامة المصنع.
هذه الطبقة الجاهزة والمستعدة هي كلام السفير الأمريكي السابق
في العراق في جلسة سرية في مجلس النواب دوغلاس سيليمان الذي قال حرفياً:
” ان حكومة الولايات المتحدة لن تترك الشعب العراقي يواجه مستقبلا مجهولا بمفرده .
وقال سيليمان خلال استضافته أمام لجنة الاستخبارات في مجلس النواب التي خصصت جلسات غير علنية لمناقشة الاوضاع في العراق :
ان الاعلان عن وجود طبقة سياسية جديدة جاهزة لاستلام الحكم في العراق ستكون رسالة دعم كبيرة للناس ”
طبقة سياسية جاهزة ومستعدة للحكم؟
كلمة جاهزة تبدو عادية لكن اعداد طبقة سياسية مستعدة للحكم يعني شغل سنوات في الخفاء. اذن من نحن في هذا الوطن الكازينو، العقار، المزرعة؟
نحن منذ 2003 لم نعد شعبا بل صرنا حشوداً ، وفي بعض منعطفات التاريخ القاسية تصاب الحشود بما يعرف بــــ”جنون الحشود” لكنه لا يظهر على حقيقته كجنون لانه يظهر كعقيدة وهدف سياسي واذا ظهر كذلك، النتيجة مجزرة لأن الحشود تريد النصر وليس العدالة. تريد الغفران وليس الحرية. هذا النوع من الجنون ظهر في الستينات في انقلابات عدة وحمامات دم بعنوان عقيدة لكننا نعاني من عطب معرفي وعطب في الذاكرة.
الحشود ولاء، والولاء حسب جورج أورويل انعدام التفكير. حشود موالية وحشود منتفعة وحشود متربصة وحشود صامتة وكل هذه الحشود بأنواعها هي جيش النظام الاحتياطي في الاوقات الحرجة لانها تفرغ النظام في حشد القوة لقمع أي حركة احتجاج شرعية وعادلة بدل تشتيته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى