د.محمد عبد الباسط عيد يكتب : الأمة مفهوم كريم رحب، وهو ضد التفتيت والتقسيم والتعالي.

في القرآن أدعية كثيرة، هي أبواب للوصل بين العبد وربه، بين السماء والأرض. الدعاء في حد ذاته ذكر، والذكر – كما تعلم- مقام من مقامات اليقظة والحضور… الذكر نقيض الغفلة.
وآية هذا الحضور أن الذين يذكرون الله يتفضل عليهم سبحانه، ويبادلهم ذكرا بذكر، ومحبة بمحبة.. تذكر الله فيذكرك، تدعوه لأمر ما من أمور الدنيا فيقربك ويطمئنك.
الدعاء وصل، والوصل محبة، والله قريب سميع لمن دعاه، وصيغ الدعاء لا نهاية لها، منها السعي والعمل والعلم والتخطيط.
الدعاء وصل، والوصل صلة وارتقاء.
أدعية القرآن فيها تجلٍ اجتماعي واضح، فيها رحابة تصل ما بين الناس؛ فأنت لن تجد هنا المؤمن الذي يرجو الخلاص الفردي، لا يعرف القرآن هذا المعنى ولا يتجاهله أيضًا.
المؤمن – في التصور القرآني- جزء من جماعة مشدودة برباط جليل الشأن اسمه رباط الأخوة في بعديه: المادي والمعنوي.. وما أجله من رباط!
ظاهر الدعاء في الآية التالية شخصي وفردي؛ فهو سبحانه يثني على هؤلاء الذين:
{يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.
إنهم – كما ترى- يرجون لهم ولزوجاتهم ولأبنائهم، يريدون طمأنينة العين حين يتطلعون إلى وجوه أبنائهم وقد رضوا منهم حسن الخلق واستقامة السلوك وصواب الهدف.. يريدون أبناءهم قرة أعين لهم، والعين القارّة عين راضية تكشف عن نفس طيبة مطمئنة، العين القارّة عكس العين المضطربة الزائغة..
لنتذكر أنه لا توجد نعمة تعدل الرضا حين تنظر إلى زوجك وأبنائك من حولك.
كل هذا مهم، ولكنه سيكون أكثر أهمية حين تربطه بعجز الآية الكريمة:
{واجعلنا للمتقين إماما }
فهنا تتكشف لك القيمة الاجتماعية للمعنى؛ فالمسلم لا يرجو صلاح نفسه وأهله فحسب، هذا صلاح جزئي، ولكن المسلم – فوق هذا- يرجو لهم أن يكونوا قدوة يقتدي بها الناس.. وهذا معنى عميق، وتسامٍ رفيع: فما أعظم أن يكون أبناؤك علامات هدى ورشاد..!
والقاعدة هنا:
نحن جماعة ولسنا أفرادا..ولأننا كذلك، فيجب أن نضئ الطريق لأنفسنا ولغيرنا، نحن جزء من كلّ أكبر، وحلقة في سلسلة طويلة متصلة من حرّاس القيم، ولذا فالمؤمن – في دعاء قرآني شهير- يدعو بالمغفرة للذين سبقوه بالإسلام، يدعو لسلسة طويلة من البشر، لم يرهم، ولم يسمع بمعظمهم، ولكنه يدرك أنهم أصحاب فضل عليه؛ إذ أسهموا في إنارة الطريق أمامه.
وفوق كل ما سبق، فإن الآية الكريمة- من زاوية اجتماعية تجريبية خالصة- تختزل قانونا اجتماعيا راسخا، يؤكد أهمية القدوة في حياة الأفراد والمجتمعات، فلا مجتمعات دون نماذج بشرية تجسد قيمها وأصولها وأحلامها ورؤيتها للحق والخير والجمال والخطأ والشر…
فأن تكون وذريتك (إماما للمتقين)، فهذا يعني أنك صرت علامة على هذا الطريق، طريق التقوى الذي لا يمكن السير فيه إلا ويدك في يد أخيك، تسنده ويسندك، تقوم به ويقوم بك.. لا تتركه وحيدًا ولا يتركك، لا تغمض عينك عن أوجاعه ولا يغمض عينه عن أوجاعك…
ولعل هذا المعنى يكشف لك بعضا من تجليات قوله تعالى:
{كنتم خير أمة}..
الأمة مفهوم كريم رحب، وهو ضد التفتيت والتقسيم والتعالي.