رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :أحزان خيول الميدان تحت المطر

” ”
هل اكتشف المثقف او الكاتب العربي ان معركته الجوهرية ليست مع نظم الحكم فحسب بل مع منظومة متداخلة ومتشابكة من المؤسسات والجماعات والأفراد تداخل انياب الكلب؟
كل النقد موجه للسلطة كما لو انها نبت من فراغ مع ان المثقف الأوربي ومنذ خمسة قرون في الأقل وهو في اشتباك مع النظم السياسية والاجتماعية والفكرية والفلسفية والادبية ومع نفسه أيضا حتى تمكن من تأسيس الحداثة الغربية الفكرية بثمن مكلف في حين عجز المثقف العربي عن فهم طبيعة الصراع التاريخي المتشابك واختزله بالسلطة. قد يكون السبب أن المثقف الغربي ولد في صراع مع السلطة، سقراط مثلاً، في حين ولد المثقف العربي في أحضان السلطة كمدون سير الملوك والسلاطين والخلفاء وسجلات الأسر الحاكمة ولم يدخل في صراع معها إلا في حالات بعض الشعراء انتهوا بالقتل.
في هذا التعقيد المحير لماذا على الكاتب والمثقف أن يخفي أحزانه ومشاعره الخاصة، ويظهر للناس كل يوم بقامة واثقة بين الأنقاض والحرائق، كجنرال جيش مهزوم ينزف بين القتلى والدخان ويجهز نفسه لمعركة اليوم التالي.؟
هل يحق للمثقف أن يعترف كباقي الناس بخسائره ” الصغيرة”؟ أم يصمت احتراما ً للأحزان والمذابح العامة؟ أم ينذر ويحذر ويستبق؟
كيف يمكن أن يمسك بالجمر ويكتب بلغة باردة خاصة والكاتب العربي لا يكتب عن حديقة بل عن مذبحة؟
وماذا يفعل المثقف المستقل اذا كان لا يعرف أن يبيع ويشتري في هذا السوق والبازار ولا يعرف أن ينافق أو يكذب أو يرتدي أقنعة في حفل تنكري مفتوح كالصيدليات الخافرة على مدار الساعة وبلا ولاء لغير الحقيقة والحقيقة دائما أكثرية ولو تبناها شخص واحد؟
كيف يمكن أن يكون هادئاً وموضوعياً وعاقلاً والواقع يشتعل بالنيران؟
وفي أية زاوية في أعماقه يخفي خساراته وأحزانه الخاصة
كلوحة المهرج لبيكاسيو الذي يُضحك الناس لكنه ينزف حزناً خلف الستارة؟.
في ساعات المنعطف لا يحق للمثقف، المثقف العضوي، الملتزم قضايا العدالة والحرية والكرامة البشرية،
أن يتداعى أو يعلن نهاية التاريخ لأن التاريخ صناعة الناس ولا أحد يعرف أين يتجه في التزاحم والتناكب والفوضى,
وليس من حقه أن يخرج للناس ليقدم لهم حجم خساراته الخاصة ولا يعرض
جروحه للملأ حتى لو كانت مميتة ونازفة ومفتوحة.
في الصباح عليه الوقوف شامخاً بقامة ملك إنتهى من المأدبة وفتح الباب هادئاً وغادر الحفل،
أو كشجرة صنوبر أمام العاصفة والمطر دون أن تنكسر، وعندما يأتي الليل يلوذ بمساحته الصغيرة، ويكون حراً كما يشاء من جور الأيام.
المثقف في عزلة الليل كخيول قادمة من ميدان الحرب تنزف في الليل من جروحها على مقربة من فرح الفرسان المنتصرين وجثث القتلى المهزومين.
هذا الغواص صياد اللؤلؤ يغوص في الاعماق بحثاً عن الجواهر المخفية،
يعيش متعة الغوص ومتعة الاكتشاف ومتعة الخروج خارج الطرق المألوفة واللغة المستهلكة والصناديق وأقفاص الببغاوات.
يتيم التاريخ واللغة والنوع والشكل، الغريب في الازدحام والماشي وحيداً بين الحشود، هذا الكناري في حقل الغربان عليه أن يغرد كل صباح،
فوق هذا المأتم المفتوح دون أن يعلن عن أحزانه وخساراته الصغيرة والكبيرة، ويحزن على كيفه تحت المطر وتحت الأشجار المنسية وتحت أصوات المآذن وأجراس الكنائس والعواصف الكبرى.
يوم يهدأ التاريخ من عربدته وينتهي المقاولون من الوليمة العامة،
ويتلاشى غبار الأيام ويأتي زمن الوضوح، سيكون العازف الوحيد في شوارع مضاءة بالأطفال الراقصين تحت الرايات المخبوءة اليوم في جذور الأيام.
كشاف الدروب الرائي في قلب الظلام، قد يخسر يوما معركة لكنه يكسب رهاناً جديداً وبداية جديدة ويجهز الشباك لصيد اليوم التالي. النصر في معركة الحرية في الغاية وليس في النتيجة والذين غادروا معارك الحرية لفشلهم في الحصول على سلطة أو لفشل السرديات الكبرى النظرية المفسرة كل شيء دون أن تفسر شيئاً، كانوا مقاولين بأقنعة آيديولوجية متينة.
معركة الحرية مواجهة الوحش ولو بالأظافر، معركة شخصية قبل أن تكون معركة عامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى