رؤي ومقالات

قراءة نقدية للناقد القدير صلاح المغربي في نص الشاعرة السورية القديرة أ. سرية العثمان

قراءة في نص “ما تيسر من كفاف” لسرية العثمان: حروف تبحث عن ينبوعها. بقلم: صلاح المغربي

مقدمة: ظمأ الحروف
ايها القارئ الحامل في كفه غيمة ممزقة، هل رايت الابجدية تسعى كظمآن وراء سراب الكلمة المقدسة؟ هل سمعت حفيف الجناحين حين تحاول الفراشة رسم الشمس باشعة من ذاكرة الضوء؟
هذا النص لسرية العثمان هو نشيد الوجود قبل الولادة، حوار بين الفكرة والعدم، حيث تنكسر الحروف على عتبة “كيمياء اتقنت تفاعلاتها”، فتتحول الى غبار كوني يبدده “ما تيسر من كفاف”.

نص الشاعرة سرية العثمان “ما تيسر من كفاف”

ما تَيسّرَ مِن كَفاف

بِريبةِ التَوجّس
أرتبُ شهقاتِ السَراب
أُحللُ قطرات العَطش
أنَقحُ معادلاتِ مواشيرَ الحياة
كنتُ أسعى بحروفِ الأبجدية
نَحوَ كيمياءَ أتقَنتْ تَفاعُلاتها..!
ولغةٍ خَلعَتْ ثَرثَرتَها
مُذْ كانت الحياة فكرةً في خلق الإله
كانَ الخُبزُ فكرةً في ذاكرة السنابل
و الطوفانُ في بالِ نبيّ
كما المَطرِ في بال الغَيم
مُذ كان الموتُ في ذاكرة الحياة
و الأنهارُ فكرةً من سرابٍٍ في رَحِم الجليد
و أصحابُ الفيل في ذاكرة الأبابيل

كنتُ فراشةً أحلّق في ذَواكرِ الضوء
لأرسُمكَ شَمساً و ظِلالا
وأكتُبكَ قصيدةً و أغنية
أيها الموغل في العِناد
تقفُ فوقَ متاهةِ الغيم
كنجمٍ شَريد
يُبدِدكَ ماتَيسّر من قوافي نصّي
تتخدّر من كافيين الأبجدية
كأرضِ الغناء جفّت حقولَ حَناجِرها
باتت شبيهة..
بأحصنةٍ أنهَتها هزائمُ الرهانات.
————

رحلة الابجدية: من ذاكرة الخلق الى متاهة الغياب

1- لغة التوجس: انفاس السراب
“بريبة التوجس / ارتب شهقات السراب”_
كانت الشاعرة واقفة على حافة الوجود،
ترصد انفاس السراب كطبيب يحلل دموع شبح.
“احلل قطرات العطش” – محاولة لاستخراج الماء من مرآة الوهم،
فاذا الحروف تذوب قبل ان تروي ظمأ المعنى.

2- ذاكرة التكوين: الفكرة التي سبقت المادة
“مذ كانت الحياة فكرة في خلق الاله”
هنا تعيدنا العثمان الى اللحظة الاولى.
حين كان الخبز حلما في ذاكرة السنابل،
والطوفان نبضة في عقل نوح،
والموت بذرة مغروسة في تربة الحياة.
“الانهار فكرة من سراب في رحم الجليد”
كأن الكون كله لم يزل جنينا في رحم الفكرة،
يترقب ميلاده من رحم الكلمة الضائعة.

3- الكيمياء المستحيلة: سقوط الحروف
“كنت اسعى بحروف الابجدية / نحو كيمياء اتقنت تفاعلاتها”
حروف الابجدية تسير كحجارة من برج بابل المهدوم،
تسعى نحو لغة “خلعت ثرثرتها”
لغة الاصول التي هجرتنا حين تشظت الالسنة.
لكن السراب يفر من بين الاصابع،
ويبقى السعي: رقصة عبثية على شاطئ المعنى.

4- الموغل في العناد: نجم فوق الغيم
“ايها الموغل في العناد / تقف فوق متاهة الغيم / كنجم شريد”
ها هو المعنى المطلق يقف ككائن اسطوري،
يلمع في علو لا تدركه حروف الارض.
“ما تيسر من قوافي نصي” ريح تبدد نجوما،
وتحول القصيدة الى محاولة يائسة
لامساك الضوء باصابع ظلام.

5- نشيد الوداع: ارض الغناء واحصنة الرهان
“كارض الغناء جفت حقول حناجرها / باتت شبيهة باحصنة انهكتها هزائم الرهانات”
ها هي اللغة تنزف على اعتاب ذاتها.
“ارض الغناء” التي جفت ينابيعها،
و”احصنة الرهان” التي سقطت تحت وطأة الهزيمة.
حتى “كافيين الابجدية” لم يعد سوى جرعة وهمية
تسكن الم العجز عن ولادة المعنى.

الخاتمة: فتات الوجود
سرية العثمان تنسج في هذا النص سجادة من الشكوى الكونية :
▪الابجدية رحلة من الفكرة الى السراب.
▪الذاكرة رحم يضم بذور الحياة والموت.
▪الابداع كفاف: غبار معنى في عاصفة العجز.

ليست الماساة ان تموت الكلمات،
بل ان تراها تتحول الى سراب
كلما اردت ان تبني بها عالما.
لان كل ما تيسر اخيرا
هو ذرات نور تسرقها ريح الغياب
من مرايا اللغة المحطمة.

سيدتي سرية العثمان:
كلماتك في “ما تيسر من كفاف” صارت كيمياء تحول السراب انهارا، والموت ذاكرة تورق بالحياة. شكرا لأنك حللت قطرات العطش ، وعلمت الابجدية ان تنقح معادلات الوجود. لقد رسمت ـ كـ فراشة الضوء شمسا لا تغيب. فانت تجيدين صنع الحياة من “ما تيسر “..!

تحياتي التي تسجد لابداعك،

صلاح المغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى