كتاب وشعراء

أطلالُ امرأةٍ ……بقلن أماني الوزير

” أطلالُ امرأةٍ في قلبِ القاهِرةِ ”
دخلتُ ميدانَ التَّحريرِ كأنَّني أعودُ إلى نَفسي،
كأنَّ القاهِرةَ كانتْ تنتظرُني تحديدًا هذا المساء!
تُعَدِّلُ شَعرَها المُبعثَرَ في مرآةِ الزِّحام،
وتُشعِلُ قِنديلًا من زفيرِ السَّياراتِ لأجلِ غُربتي…
أنا الّتي جئتُ أبحثُ عن ظلِّي في المدينة،
ظِلٌّ يُشبِهُني، لكنَّهُ يمشي بثقةٍ لا أملكُها.
وَقَفْتُ أمامَ الأسودِ على كوبري قصرِ النِّيل،
كأنَّها تعرفُني!
كأنَّها تُومِئُ لي:
«مرحبًا، كم تأخَّرتِ!»
هل يمكنُ لمدينةٍ أن تُعاتبَكِ بهذهِ الرِّقَّة؟
كانَ المارَّةُ يمشونَ بسرعاتٍ مختلفة،
لكنَّ خُطواتي كانتْ خفيفةً كأنَّني أطفو.
مَرّتْ بي امرأةٌ تُمسِكُ يدَ رجلٍ يضحكُ من قلبِهِ،
لَمَحْتُ ظلالَهُم تتشابكُ على الأرض.
قُلتُ في نفسي:
«ربّما كانتْ هذه أنا… في زمنٍ آخر.»
على الكافيه المُطِلّ على النِّيل،
جَلَسْتُ في الزاويةِ التي أراها دومًا في مخيلتبي،
طَلَبْتُ قهوةً سادة،
فجاءني النادلُ بصوتٍ ناعمٍ، كأنَّني أعرفُه:
«حاجة تانيَة، يا هانِم؟»
هَزَزْتُ رأسي بابتسامةِ تعب،
فقال:
«القاهرة بترُوق وقت المغرب… لو قعدتي شوية، هتحبِّيها.»
قُلتُ له بهدوءٍ:
«أنا جيت أُحبَّها… أو أفتكرني بحبّها.»
كانتِ المراكبُ تتمايلُ في النِّيلِ كأنَّها ترقُص،
وشَفَتايَ تتحرّكانِ دون صوتٍ بكلماتِ أُغنيةٍ يخرج صداها من الراديو ،
تحكي كلَّ ما أشعرُ به.
الست قالت:
«كنتُ بشتاقلك وأنا وأنتَ هنا
بيني وبينك خطوتين… خطوتين،
شوف بقينا إزاي، أنا فين يا حبيبي وأنت فين»
لا تعرف صاحبةُ المقطعِ المنشود أنَّ ما بيني وبينك
عُمْرًا من الحبِّ والحزن.
ظهرَ المركبُ…
شِراعٌ أبيضُ يتمزّقُ قليلًا على الأطراف،
ورجلٌ من الجنوب،
أسمرُ كالأرضِ والقمح،
يُغنِّي شيئًا يُشبهُ وجعي،
يُشبهُ أبي حينَ كان يشدو وهو يُصلحُ شيئًا مكسورًا.
لوَّحَ لي، أو ربّما لوَّحَ للرِّيح،
لكنِّي صدّقتُ أنّهُ يُراني.
قُمْتُ كمن يسيرُ نحو وَعدٍ قديم.
وَقَفْتُ على حافةِ النِّيل،
الهواءُ يحملُ رائحةَ خُبزٍ، ورمادٍ، وشيئًا من الحزنِ والحنين.
قُلتُ له دون صوتٍ:
«أنا من هنا… حتّى وإنْ أنكرني العابرون.»
جئتُ أبحثُ عن رائحةِ الرَّجلِ الّذي أحببتُ في ظِلالِ المدينةِ الأُم،
أبحثُ عن ظلِّه،
عن هَمسِ ضِحكتهِ على طاولةٍ في موعدٍ مُؤجَّل،
عن شهوةِ الأصابعِ لحظةَ العِناقِ الأوَّلِ بعدَ السُّؤال:
«ماذا لو كُنّا التقينا تحت عباءةِ الليلِ والنَّدى، وقليلٍ من عطرِ الفلِّ والياسمين،
في شوارعِ المعادي، وحاراتِ خان الخليلي، ومِيدانِ القلعة؟»
القاهرة،
حين يدخلُها الليلُ،
تُطفئُ أنوارَها وتتركُنا وحدَنا،
لكنَّها لا تتركُنا حقًّا.
هي تتوارى لتسمعَ أسرارَنا،
لِتحتفظَ بها،
وتُعيدَها لنا في الحُلم…
على هيئةِ ضوءٍ، أو بيتِ شعرٍ، أو غنوةٍ بعيدة.
شيئًا فشيئًا… بدأَ كلُّ شيءٍ يهدأ،
تتحوّلُ الزحمةُ إلى رِقّةٍ،
تتحوّلُ الأصواتُ إلى موسيقى،
تتحوّلُ القاهرةُ إلى أنثى تهمسُ لمن يحبُّها…
بأنها هنا…
وأنها ما زالت قادرةً على الحبِّ.
كانت رائحةُ الرجلِ الذي أحببتُ…
تسبقني إلى المقعدِ،
وتجاورني في القهوةِ،
وتركبُ قبلي المركبَ،
وتحفظُ صوتَ المراكبيّ عن ظهرِ قلب.
كان وجهُه… هو كلُّ المدينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى