حصر الثقافة في جلباب السياسة د/ عبدالعليم محمد باعباد

تسييج الأدب والفن والثقافة بالجغرافيا السياسية المفترضة، تأطير لما لا يقبل التأطير بطبيعته، وقبض على ما لا يمكن قبضه؛ إذ الأدب والفن والثقافة كالهواء والماء.
تستطيع السياسة في غمرة القرار السياسي المنفعل أن تضع أسلاكا شائكة حول الأدب والثقافة، لكنها لا تستطيع أن تمنع تدفقها.
وبذلك يغدو التسييج بذلا للجهود من غير طائل؛ سيما في ظل عالم فضائي مفتوح.
تستطيع أية وسيلة إعلامية أوثقافية، أن تحصر نشاطها وعملها في نطاق جغرافي معين، فتستضيف أدباء ومبدعين، أو تبث أغانٍ وقصائد لشعراء من ذات الجغرافيا تحت مبرر الحفاظ على الهوية.
ليس بالضرورة أن يكون هؤلاء الشعراء والفنانون مؤمنين بالتأطير.
و لكن قد ينشأ في ظل هذا الانغلاق جيل مؤمن بالتأطير السياسي الجغرافي، والتفكير ذي البعد الواحد .
فهل يكون هذا هذا العمل منتجا للأثر المرجو !
إن الغريب في هذا النوع من التفكير أن النتائج المتوخاة من العمل لا تأتي وفق ما خطط له القائمون على هذا التوجه؛ بل تأتي بالنقيض من ذلك، و يمكن توضيح هذا الأمر من خلال الآتي:
أولا: أن التسييج الجغرافي والسياسي على الفكرة الأحادية كان يؤتي أكله، في ظل عالم مغلق فضائيا، عندما كانت حدود الدول مغلقة برا وبحرا وجوا، فلم توجد حينذاك الأنشطة الإعلامية الفضائية، كالقنوات والإعلام الرقمي، أو الشبكة العنكبوتية الفضائية التي لا تستطيع الدول بحدودها وقواتها وقف نشاطها الفضائي المفتوح.
ثانيا:
قد يقتصر نشاط وسيلة إعلامية _ قناة أو مجلة _ على نوع من النشاط الثقافي والفني والأدبي المغلق، وهذا حق من حقوقها.
غير أنها بذلك التحجير، تدفع المشاهدين والمتابعين، إلى غيرها من الوسائل الإعلامية المنفتحة على الأدب والثقافة؛ فالخيارات باتت اليوم متعددة، وفي متناول الجميع .
يبدو أن العقل المنغلق على ذاته، والتفكير الأحادي الجانب، والقلم المنحصر في الدائرة الجغرافية أو الفكرة السياسية الواحدة، يحجر على واسع، ويحرم نفسه من الإفادة والاستفادة، من القراء والمتابعين والنتاج الإنساني الكبير !
وهكذا، و بهذا الانغلاق تأتي النتائج عكس ما خطط لها وأريد منها.
يظهر أن من أسباب هذه المشكلة وجود خلط في المفاهيم وقصور في الإدراك حول طبيعة الأدب والثقافة والفن عند البعض، إذ يرون الهوية الثقافية منحصرة في جلباب السياسي، وهذا جهل كبير بالمفاهيم الصحيحة.
إن السياسة بطبيعتها متقلبة، متغيرة غير ثابتة، وهي بهذه الطبيعة تختلف عن الأدب والثقافة والفن، فهذه النتاجات إنسانية في المقام الأول، ودائمة مستمرة متطورة.
و قد يكون منتجوها، و روادها، ومحبوها أصحاب هويات ثقافية معينة، أو قد يكونوا مؤمنين بتوجهات فكرية وسياسية محددة، لكنهم إزاء ذلك يضعون للسياسة حدا، فلا يسمحون لها تسييج نشاطهم الثقافي والأدبي والفني الإنساني في حدود جغرافية محددة، أو فكرة أحادية.
ولا يحرمون عقولهم ومشاعرهم عن تلقي أي منتج ثقافي جميل أي كان مصدره.
فالسياسة في الأصل ينبغي أن تتبع الثقافة، والسياسي الناجح وإن كان يتخذ توجهاْ سياسياْ معينا؛ إلا أنه يميز بين ضيق السياسة و سعة الثقافة، وبين الخصوصية والهوية.
فلا يسمح المثقف أن تسيج الثقافة بأسلاك السياسة.
و لا يقبل أن تنكمش الخصوصية على ذاتها، فتمنع روح وعقل المثقف عن استلهام روح الهوية الجامعة، ولا النتاج الإنساني علما وأدبا وثقافة وفنا.
وإلا كان ذلك التوجه نوعا من السجن للذات الإنسانية العصية على التسييج والتأطير في حدود ما يفكر به العقل السياسي المنغلق.
لعل من المفيد أن نختم بحقيقة ماثلة، لنستدل من خلالها كيف تتقادم السياسة ؛ خصوصا تلك القائمة على ردود الأفعال، وعاطفة الانفعال، إذ لا تلبث أن تنتهي وتموت في أي مجتمع .
و بالمقابل نرى ديمومة للأدب والثقافة والفن، فبإمكان أي باحث ومتابع أن يأخذ مجلة صادرة في مرحلة سياسية سابقة في أي مجتمع، ليقرأ مقالا سياسيا لكاتب مغلق فكريا وسياسيا، سيجد أن هذا المقال قد تقادمت أفكاره، وانتهت مبرراته، ولربما استحى الكاتب نفسه مما كتب.
وبالمقابل يكون النص الأدبي والفني خصوصا المعبر عن تجربة إنسانية صادقة، نصا حيا صالحا للإفادة والاستفادة، قادرا على المتعة وبعث الروح من جديد.