إلى نفسي… و الفزّاعة.. بقلم : سابرينا عشوش

” إلى نفسي… و الفزّاعة”
كأنكِ نُصبتِ في منتصف الحقل،
ثيابكِ أكبر من جسدك،
وجسدكِ أكبر من خوفك،
وخوفكِ أكبر من ذاكرتك.
تدّعين أنكِ تحرسين سنابل قلبك،
لكن العصافير تعرف أنّكِ من قشّ،
فتدخل من بين أصابعكِ وتأخذ حصادكِ دون إذن.
أي حربٌ جعلتكِ واقفةً بهذا الثبات المزيّف؟
أي رصاصات ثقبتكِ حتى صرتِ ثقوبًا أكثر من كونكِ جسدًا؟
أنا واحدٌ، يقف مثلكِ،
لكنّي من لحم،
وواحدٌ آخر من قشّ،
وواحدٌ آخر من دخان.
أنا اثنان، واحدٌ يلوّح بيديه ليخيف الغياب،
وواحدٌ يلوّح مودّعًا من بقي.
أنا ثلاثة، اثنان مصلوبان في منتصف الذاكرة،
وواحد يسقي الأرض بدمه.
أنا أربعة، ثلاثة تماثيل للفراغ،
وواحدٌ فقط يصرخ: أنا هنا!
أنا خمسة، أربعة عيون مغطّاة بالقماش،
وواحد يرى ولا يُصدّق.
أنا ستّة، خمسة فزّاعات صامتة،
وواحد يركض ليلحق بظلّه.
أنا سبعة، سبعة احتمالات للموت،
لكنّي أختار الحياة كي لا أخسر قصتي.
أنا ثمانية، ثمانية مداخل للقصيدة،
كلّها تؤدّي إلى ذات المخرج: الصمت.
أنا تسعة، لا يعرف أحدٌ مَن فيهم من قشّ ومن لحم،
لكنّي لست عشرة…
فالعاشرة موتٌ كامل، وأنا لم أمت بعد.
كأنكِ ظلّكِ المصلوب في الفراغ،
تحرسين أرضًا لا تنبت،
وتبتسمين للعصافير التي لم تعد تخافكِ.
أنتِ حارسة الغياب،
تكتبكِ الريح،
وتقرأكِ الغيوم،
ويفسّرك المطر كقصيدة عن الفقد.
أنا ثلاثة، يطارد أحدهم المعنى،
ويطارد الآخر السراب،
ويتفرّج الثالث على مطاردة بلا نهاية.
أنا أربعة، تتوزّع بين الجهات،
لكن البوصلة في صدري عاطلة.
أنا خمسة، حيث فناء،
زيف،
عبث،
والأخريان… بقايا حساب لا يكتمل.
كأنكِ كلمةٌ من ستّة حروف،
لكن كلّ حرفٍ فيكِ صار وطنًا صغيرًا…
وكل وطنٍ صار قشًّا ينتظر الريح.
فزعٌ مضروب في فجرين،
زمنٌ مرفوع إلى قسوة الغياب،
عتمةٌ على أسّ الصمت،
أنينٌ في الجذر التربيعي للحلم، عبورٌ فوق مقابر الحنين،
ة/ت/ تمزّقٌ مقسوم على اثنين: أنتِ وأنا.
ولم اعرف من منا كانت تاء التأنيث….
أنا ستّة، ستّة فزّاعات تصطفّ كالأرقام الأوّلية:
لا تقبل القسمة إلا على وحدتها أو موتها.
أنا سبعة، سبعة أفق مرفوعة إلى أسّ المستحيل،
وواحدٌ منها فقط يظلّ أفقي
أنا ثمانية، ثمانية حروف في دفتر الريح،
كُلّها تكتب اسمكِ دون أن تكتبه.
أنا تسعة، تسعة حيوات مستعارة،
لكنّي لم أبلغ العاشرة…
فالعاشرة جذرٌ نهائي،
وأنا لا أزال على هامش المعادلة.
كيف لا تراني، كلما أمعنتُ النظر فيك؟
كل الحقول تعاتبني، كأنك فقدت البصر.
تتهكّمني الريح مع العاصفة،
وكلما دقّقتُ النظر في انعكاسي،
لم أرَ ملامحي،
بل رأيتُ فراغًا يملأ ظهري، وغيومًا تهاجر من عيني،
وطيورًا تلتقط منّي ما تبقّى من صمتي.
تمهّلي يا روحي…
أمهلي جسدًا احتضنك وما خان، ولا غدر،
جسدًا قضمت مواسم الجفاف أطرافه،
ونهشته مناقير الغراب،
حتى صار نحيلاً، شفافًا،
لا يتألم، ولا يصرخ، لكنه ينهار بصمت.
ارأف بي يا نطّار،
فكم انهار هذا الجذع وكم تشقق،
كم تمنّى أن يتحلّل ويعود ترابًا،
كم فتّش عن نفسه ولم يجد سوى قشٍّ متطاير.
وقفتُ على بنان الزمن،
أجرُّ ثقلَ خفّتي عبثًا،
أعاند خيوط العناكب،
أتحدّى صقيع الشتاء ولهيب الصيف،
وأقع في فخّ اللاجدوى،
وأحيانًا… أنكسر.
يا كومة الروح، يا نبض الحقول،
ارحميني في ما تبقّى مني…
أنا بقايا نفس من قشّ،
لكن قلبي ما زال يسمعك،
وصدري ما زال يصدّ الرياح عنك.
تريّثي يا خريفي، فالموعد واحد،
أقلّه لنتواضح، لنتصالح، لنتوحّد.
طريق السفر طويل،
وبعيد بعد النظر،
لكننا سنمشيه معًا،
نلملم تعب بعضنا،
ونظل واقفين… حتى آخر حبة قمح في الحقل.
لنتحاور، جسدًا وروحًا،
لنتكئ على بعضنا،
وكلما تعب الواحد منّا،
لملمه لحاف الآخر…
حتى نصل.
سابرينا عشوش
@à la une