علي الحفناوي يكتب :دومينيك فيفان دونون فنان أم جاسوس؟

قبل أن يُعرف دومينيك فيفان دونون (Dominique Vivant Denon) كفنان ومؤرخ ومدير لمتحف اللوفر، كان يؤدي أدوارًا أكثر غموضًا في خدمة الدولة الفرنسية. في سبعينيات وثمانينيات القرن الثامن عشر، تنقّل دونون بين العواصم الأوروبية — من سانت بطرسبرغ إلى البندقية — تحت غطاء دبلوماسي وثقافي، لكنه كان في الواقع ينفذ مهام استخباراتية لصالح النظام الملكي الفرنسي.
• استخدم علاقاته الاجتماعية الواسعة وثقافته الرفيعة لاختراق الأوساط الأرستقراطية وجمع المعلومات السياسية والاقتصادية.
• طُرد من البندقية عام 1793 بتهمة التجسس، مما يؤكد أن نشاطه لم يكن مجرد فضول فني.
•
هذه الخلفية الجاسوسية جعلت منه مرشحًا مثاليًا لمرافقة حملة نابليون إلى مصر، ليس فقط كفنان يوثق، بل كـ”عين مثقفة” تراقب وتُحلل وتُبلغ. فوجوده في مصر لم يكن بريئًا، بل كان جزءًا من منظومة استخباراتية ناعمة، تهدف إلى فهم المجتمع المصري وتشكيل صورة تخدم المشروع الإمبراطوري الفرنسي.
من هذا المنطلق، يصبح دور دونون في مصر أكثر تعقيدًا: فهو ليس مجرد رسّام للآثار، بل مهندس سردية استعمارية، تُجمّل الاحتلال وتُشرعن الهيمنة باسم الفن والعلم.
١. تجميل الغزو
رافق دونون القوات الفرنسية إلى صعيد مصر، مزودًا بأقلامه ودفاتره. لم تكن رسوماته للمعابد في دندرة والأقصر وفيلة مجرد توثيق بصري، بل كانت تحويلًا للحرب إلى مغامرة جمالية.
• صوّر مصر كأرض متجمدة في الماضي، تنتظر أن تُكتشف وتُبعث من جديد على يد أوروبا. فكان الخطاب التنويرى زائف: الاستعمار باسم الحضارة. وقال أن مصر كانت حضارة عظيمة وانطفأت وأن فرنسا جاءت لاحيائها.
• تجاهل الواقع الاجتماعي والسياسي المعاصر، (فلاحين، حرفيين، نساء…)، مع تجاهل تام لمقاومة الاحتلال؛ مما أدى إلى تفريغ المكان من سياقه الحي وتحويله إلى ديكور أثري. وصف المصريين كشعب طيب لكنه متخلف، وأضفى على الفرنسيين صفة المرشدين الحضاريين.
• ساهم هذا التجميل في ترسيخ فكرة “الشرق الغريب”، وهي إحدى ركائز الخطاب الاستعماري: عالم ساحر لكنه عاجز عن النهوض دون تدخل الغرب.
٢. العلم كأداة للشرعنة الإمبريالية
شارك دونون في إعداد موسوعة وصف مصر، التي أنجزها علماء الحملة. ورغم تقديم المشروع كعمل علمي محايد، إلا أنه خدم في الواقع شرعنة الوجود الفرنسي في مصر.
• تحولت مصر إلى موضوع للدراسة والتصنيف والتفسير، لا إلى شريك في الحوار.
• ظهرت فرنسا كحاملة للمعرفة والتقدم، مما عزز فكرة التفوق الثقافي كمبرر للهيمنة.
• جسد دونون هذه الرؤية: الفنان-العالم الذي يراقب ويحلل ويترجم الشرق للجمهور الأوروبي، بينما يعزز فكرة “المهمة التمدينية”.
٣. السرد كأداة للدعاية
نشر دونون بعد عودته كتابه رحلة في مصر السفلى والعليا عام 1802، والذي لاقى رواجًا كبيرًا. لم يكن هذا الكتاب مجرد سرد، بل كان إعادة تركيب للواقع:
• تم التعتيم على الإخفاقات العسكرية وتجاهل المقاومة المحلية.
• قُدمت الحملة كملحمة فكرية، حيث انتصر العلماء والفنانون فيما فشل فيه الجنود.
• ساهم هذا السرد في تمجيد نابليون، وتبرير الحملة، وتهيئة الرأي العام لفكرة إمبراطورية مستنيرة، تقوم على الثقافة كما على القوة.
٤. المتحف كمعبد إمبراطوري
عُيّن دونون مديرًا لمتحف نابليون وتم تسميته بمتحف “اللوفر” من قبل نابليون، فحوّل المؤسسة إلى معبد للإمبراطورية. أدخل إليها القطع الأثرية المصرية، وقدمها كـ”كنوز عالمية” تم الحصول عليها بحق.
• أصبح المتحف أداة مركزية في تجميع الثقافة العالمية في باريس.
• تجسدت فيه منطق الاستعمار الثقافي: الاستيلاء، العرض، التفسير — دون إعادة.
ساهم دونون بذلك في تحويل الثقافات المستعمَرة إلى مقتنيات جامدة، تُعرض خارج سياقها الحي، وتُفسر من منظور أوروبي.
٥. دونون وديليسبس — وجهان لسردية واحدة
لم يكن دومينيك فيفان دونون مجرد فنان رحّال، بل كان مهندسًا للسردية الاستعمارية الفرنسية، حيث تحولت مصر في أعماله إلى أرض تُعجب وتُدرس وتُهيمن عليها. وفي هذا السياق، يمكن عقد مقارنة مع ماتيو ديليسبس، والد فرديناند ديليسبس الذى عقد اتفاقا مع محمد على لحكم مصر بعد نهاية حملة نابليون. فبينما جسّد دونون الاستعمار الثقافي والمعرفي، جسّد ديليسبس الاستعمار الاقتصادي والبنيوي:
• دونون أعاد تشكيل صورة مصر في الخيال الأوروبي، وديليسبس أعاد تشكيل استراتيجيتها لخدمة المصالح الغربية.
• كلاهما ساهم في إعادة تعريف مصر كفضاء قابل للاستغلال والتوظيف، سواء عبر الفن أو عبر السياسة والاقتصاد.
هكذا، تتكامل أدوار دونون وديليسبس (الأب) في بناء سردية استعمارية فرنسية تحت مظلة الامبراطور نابليون بونابارت، حيث تُختزل مصر إلى موقع أثري أو مستعمرة فرنسية، يُعاد تشكيلها وفقًا لحاجات الإمبراطورية.
========
<<وثائق هذا المقال من عدة مصادر فرنسية، هي:
Dominique-Vivant Denon: L’œil de Napoléon – Philippe Sollers
Voyage dans la Basse et la Haute Égypte (1802) – Dominique Denon
سجلات متحف اللوفر، أرشيف وزارة الثقافة الفرنسية >>