كتاب وشعراء

بعضُ وجعٍ وكفى …..بقلم نورالدين كويحيا – المغرب.

أشجارٌ يتعبها النَّسيم

وكنّا أشجاراً يُتعبنا النّسيم، وكل يومٍ تتساقط أوراقنا من فرط الهُجران. وحين يُتعبنا هذا الوقوف الطويل في ذاكرةِ الحواف، كنّا، نمد أغصاننا صوب الأرصفة؛ ننحني.. وننحني، حتى نكاد ننسلخ من مأساة التراب. يمر المارة قاذفين فوق أوجاعنا حصاةَ دهشتهم، ثم يغادرون: فرداً.. فرداً، غير آبهين بسطوةِ القيظِ إذ يحيل الجذع يابساً.. آيلاً نحو نهايته.

ولأننا لم نتعلم كيف يترك المرءُ جذوره اليابسةَ مُغادراً، ولأننا تمسّكنا ملياً بأعماقنا المحفوفة بالهزيمةِ وببقايا صدىً مازال يتردد في جوفنا.. ظللنا إذن نربي انتحاراتنا وفي كل فرصةٍ نقتل إبناً فينا ويسميه الٱخرون: ثمرةً ذابلة.

كنّا، أطفالاً من خشب، وحين يجيء الفأس الدّامي ليحطب هذا الوجع الدّاكن، نقول: ولدنا هنا، ونريد الموت هنا. فالمرءُ في النهاية لا يودّ أن يصير طاولةً تلتم حولها أسرةٌ وتدلق الأكاذيب البيضاء فوق سطحها الخشبي، ولا يريد المرءُ أيضاً أن يصير باباً يُفتح على أسرار الظُلمة السّحيقة. كلٌ منّا يريد حين يموت أن ينتهي، دون أن يعود على هيئةٍ أخرى.. دون أن يخلف وراءهُ وجعاً ينخُر خاصرةَ الفراغ.

فيا أيها الحطّاب، حاملُ الفأسِ الخرساء، اِحرق جذر الغبن، وشرّد ثمارات حزني. ثم صيّر هذا الخشب وهذه الفروع الممدودة – كتلويحةٍ أخيرة – رماداً. أُريدني ناراً تُدفئ البرد الطويل في صومعةِ العظام، أُريدني انتهاءً.. فقد اكتفيتُ من الابتداء.

نُطفة ماء

بعضُ وجعٍ وكفى. والقيظُ الأحمرُ خيطُ دمٍ في كفي، وسلاسة الأنهارِ التي لم تنتهِ إلى شلال، ولم ترفعها مناقيرُ العصافير؛ ها هي ذي تحوم حول خاصرةِ الشِّعر، تُنكّس راياتِ المجاز، وتُردد على مسمعِ الأغنيات جفاء نشازها.

كلما جِئنا إلى القصيدة، ينكسرُ في حضننا غصن ثورةٍ، وكلما ركضنا على حوافِ الوجعِ الأسمر تعالت أصواتٌ من بعيد: لستم من هنا. هذه الصحراء لا تخصكم. هذا الرّمل الذي يجذب الموج إلى أقاصي شتاتهِ لن تدوسوه بأقدامكم. صدّقنا، صدقنا ما قيل، والتفتنا نحو كذباتنا.. مضينا مُترعين بماءِ الموجِ الشّفيف، وبِزرقةٍ مازالت بنفس اللّوعةَ تموج في أعيننا. إلى أين ننتمي إذن؟ وكل الجهاتِ تنبؤٌ بالسّراب. كل الأيامِ مسافاتٌ نقطعها نحو طيفنا الأوحد، نعبرُ من خلاله، مدركين أن أجسادنا هي الأخرى مدمَّاةٌ بالتّلاشي.

قالوا: إن لم تفروا من هروب الرِّيح، سنقتنص خوفكم ببنادق من خشب. قالوا: إن لم تجمعوا دموعكم من عتباتنا سنطلقُ كلاب وحدتنا المسعورة نحو قلوبكم الغضَّةِ كالبتلات، إن لم ترحلوا بقعاً عن سقف البيت، ناراً عن غصة الحطب، ملحاً عن ورد الشرفات.. حتماً ستنام هذه الرَّصاصاتُ في صدوركم؛ كهزيمةٍ أخيرة.

لملمنا كل ما يخصنا، نهبنا صور القدماء، لأننا آمنّا بأن وجوهنا وإن كانت ذاكرةً للانتحارات فلها انتماءٌ إلى من كانوا هنا وامَّحوا.

بلغنا منبت السّيل. قلنا: من هنا انطلقت مأساتهم، من هنا انطلق النّهر الذي يُبدي لأعينهم وجوهاً تشبه صور أجدادهم. أخذنا معولاً، حفرنا عميقاً، حتى وصلنا إلى النُّطفةِ؛ نطفة ماءٍ، قبضنا عليها.. أحلناها دمعاً، وككل الأجداد اليابسين، دفناها في عيوننا، قائلين برجفةِ الرّعد: صار لنا انتماءٌ، وها نحن على مقربةٍ من عتبة السُلالة، سُلالتنا. فكل سلالةٍ تبتدأ بالدّمع وتنقله من عينٍ إلى عين كاضطراب وراثي؛ كل سلالةٍ لا حزن متوارث فيها.. تنتهي شلالاً، قطرةَ ماءٍ في مناقيرِ العصافير، بُقعةً في سقف البيت، ناراً في غصَّةِ الحطب، ملحاً في ورد الشرفات، جثةً برصاصةٍ مغروسةٍ في صدرها.

آمنّا بحزن السلالة، نفضنا سجائر سعادتنا.. ومُتنا بأسماءٍ محفورةٍ في حَشدٍ من الشَّواهد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى