حمزه الحسن يكتب: استراتيجية الأنذال

لماذا تقلد الضحية المتسيدة جلادها الاصلي في الخسة والدناءة والظلم بل تتفوق عليه في ذلك عندما تتحول الى سلطة؟
يقول المفكر والروائي فرانز فانون:
” الضحية تبحث عن ضحية وضحية هالكة وضعيفة لأن جلادها الأول زرع فيها الجبن من القوي،
لكنها تختار ضحية مشرفة على الهلاك في أقذر سلوك إنتقائي بشري
للتنفيس عن عار داخلي وترحيل عقدة الشعور بالدونية على آخرين”
يقول أيضا وهو طبيب نفساني:
” راقبت القرود في الأقفاص ولاحظت أن القرد الكبير عندما يريد إرسال رسالة قوة للقرد الخصم، يقوم بالتنكيل بقرد صغير ضعيف، ومع الوقت يدير القرد الصغير مؤخرته للقرد الكبير من الذعر”.
انتقاء ضحية عزلاء لا حول ولا قوة لها للتنكيل بها والتنفيس هو أقذر سلوك انتقائي بشري ويمارسه الضحايا بعد استلام السلطة ما لم تنعطف الدولة، حالاً، نحو بناء المؤسسات الديمقراطية،
واذا كان فانون لاحظ ذلك في أقفاص القرود، فيمكن ملاحظة ذلك في الحياة اليومية وكيف تتصرف الضحية المتسلطة للتعويض عن عارها القديم باللجوء الى استعراض القوة على ضعفاء ، ومن الغرائب ان هذه الظاهرة موجودة حتى بين المنفيين في المنافي حيث لا يقترب هؤلاء من الاجنبي لممارسة الغطرسة خوفاً منه بل انتقاء ضحية منعزلة من أبناء جلدتهم ولا يقتربون من ضحية قوية. كانت دراسة هذه الظاهرة قد شكلت رؤيتنا الى المستقبل في حال سقوط النظام وقبل الاحتلال وهو تماماً ما حصل عندما أصبح الضحايا سلطة. المستقبل هو مجموعة تفاصيل ، والخطاب السياسي لا يهتم بالتفاصيل بل بالشعارات والخطابات والعناوين الكبرى في حين تكمن الحقائق تحت الظلال المعتمة.
الانتقام الحقيقي من الماضي في بناء العدالة وفي التجاوز وبناء الذات وليس في سلوك الاجترار العقيم والبحث عن تعويض شرير لن يخدم حتى الذات المصابة والمريضة المنتقمة بل يعمق من مازقها.
في كل تحولات التاريخ عندما تنهار سلطة وتأتي أخرى،
ولم تتجه السلطة الجديدة نحو بناء المؤسسات الديمقراطية وهيمنة العدالة،
تتجه نحو الظلم والدكتاتورية ويقوم ضحايا الأمس بالتنكيل بضحايا اليوم
في تبادل أدوار لا ينتهي.
وكما هو منطق فانون، لا تقترب ضحية متسيدة في سلطة
من ضحية قوية لأن جلادها الأول زرع فيها الجبن من القوي، لذلك تبحث عن ضحية ضعيفة عزلاء للتعويض عن دونية خفية،بأساليب أقذر من أساليب جلادها الأول،
لأنها تعرف معنى الألم والوجع وتعرف كيف وأين تضرب ولأن الضحية تتماهى مع جلادها إما عن إعجاب خفي أو حقد أو تقليد حسب سيغموند فرويد،
او تقليد المغلوب للغالب حسب ابن خلدون. كان العرب القدماء ينصحون” لا تؤانس الذليل” لا تمازحه ولا تتواضع معه ولا تقترب منه لأن الاحترام يغريه بالتجاوز والتعويض عن مشاعر الدونية الدفينة وهو يخاف ولا يحترم. هذا السلوك المنحرف يحدث خارج علاقات السلطة والقوة ايضا بل في العلاقات الاجتماعية والشخصية بين الأفراد.
الضحية المتسيدة المتسلطة تحتاج الى إستعراض قوة زائفة ،
وتحتاج الى شهود وجمهور لخداع النفس،
لكن الشجاع لا يحتاج إلى إستعراض ولا الى شهود والى مسرح، لأن الشجاعة تشع على الوجه كنور داخلي مضيء،
والشجاع واثق من نفسه ولا يذل حتى عدوه لذلك قال أهلنا الحكماء البسطاء:
” ولية سبع ولا ولية بعر”،
أي تقع في قبضة عدو شجاع أفضل من أن تقع في قبضة جبان لأن الأول يمنعه نبله من الاذلال والثاني يدفعه جبنه الداخلي الى الاستعراض والانتقام وهي استراتيجية الانذال بما في ذلك العنف اللغوي.