حمزه الحسن يكتب : بان ضحية ولو إنتحرت

رغم تقرير اللجان الثلاث حول قضية الطبيبة ” بان زياد” في ان الحادث انتحار،
لكن بان ضحية في كل الأحوال :
السبب الاول :حسب تسجيلها الصوتي تقول إنها تشعر انها غير محبوبة وانها تعبت من الوجود،
وهذا الشعور في كون الانسان” غير مرغوب فيه” لا تنتجه ظروف عابرة بل هو عملية طويلة تزرع في الشخص من قبل الأسرة أولاً ومن قبل المحيط الأقرب ثانياً،
وفي حالة مثل هذه ينظر الشخص الى نفسه بعيون ومعايير الآخرين بصرف النظر عن موقعه وتعليمه ما لم يكن محصناً ومسيجاً بثقة عالية بالنفس وهناك عبارة قذرة شائعة عند الاختلاف تقول للآخر” الكل يكرهك” ولا أحد يعرف كيف تم إستفتاء الكل؟ وعلى هذه العبارة علق علي الوردي بالقول: العراقي يختزل المجتمع كله بحفنة حثالات من محيطه القريب ويطلق عليهم صفة المجتمع.
السبب الثاني: من زرع في عقل بان فكرة ان الانتحار ، لو كان انتحاراً فعلاً، هو الطريق للقاء الله كما كتبت على الباب ـــــــــــ أريد لقاء الله ــــــ كما لو ان الله فاتح مكتب شكاوى لكل منتحر وضجر من الحياة مع ان لقاء مدير بلدية او كهرباء يحتاج الى موعد؟
وهي ضحية هذا الوهم القاتل والسبب الرئيسي الذي ساعدها على الانتحار .
أما فيما يتعلق باستعجال الجمهور باصدار الاحكام الفورية فهذه عاهة عراقية وصفها علي الوردي منذ منتصف القرن الماضي بـــــ” الخفة العقلية”فليس هناك أسرع من العراقي في إصدار الأحكام وفي قضايا حساسة بلا محكمة ولا فرصة متهم ولا شاهد نفي ولا شاهد اثبات ولا قاعة ولا كراسي ولا شرطي في الباب ولا قانون ولا قرار ولا محامين ولا جمهور بل حتى ولا قضية حقيقية بل فرية او عملية تشهير تتداول وتتضخم وتتكرر بلا فحص ولا شك ولا سؤال ولا بحث ،
وقد تكون هذه الخفة مبنية على حدث حقيقي تم تأويله وتضخيمه من خلال مروره بنفق طويل من الافراد والتأويلات والسبب غياب الثقافة القانونية القائمة على عناصر المحاكمات أعلاه أو في الأقل” حس العدالة الفطري” الذي لا يحتاج الى دراسة حقوقية بل الى ضمير وانصاف وفطرة كما في محاكم الغربان والنمل.
ولا يكتفي بدور القاضي والمحكمة والقرار بل يقوم بدور الطبيب النفساني ويحلل عن بعد قارات شخصا لا يعرفه ولم يلتق به وبلا عيادة ولا فحص سريري ولا جلسات حفر في اعماق الذات ولا سماعة ولا مبادئ للتحليل النفسي ثم يختار مرضا نفسيا كان قد صادفه ويطلقه على ضحية غافلة ويمشي هذا الهراء بين عقول مستقيلة وبين الغوغاء وهو مطمئن أن أحداً لن يسأله عن البينة والدليل والاثبات في مجتمع” الخفة العقلية” وكثيراً ما اكتشفنا بعد مرور سنوات ان هذه التهمة أو تلك الملصقة بشخص ما كان بريئاً منها وكانت تصفية حسابات أو على خلفية ثأر أو خلافات شخصية.
ولو قال لك شخص بحضور جماعة ان جدتك التي ماتت بداية القرن العشرين كانت كذا وكذا، فعليك ان تقضي حياتك عبثاً دفاعا عن المرحومة ولو كانت قديسة وصوفية ولن يصدقك أحد لأن العراقي يجد صعوبة بالغة وفي حالات استحالة في تغيير قناعات تعايش معها حتى لو اكتشف حقيقة مغايرة. هذه خاصية” العقل المخصي Castration Minte ” أو العقل المستلب وهو مفهوم من علم النفس الاجتماعي الذي من صفاته العناد والحرن والتصلب وانعدام المرونة والانفتاح وتقبل حقائق جديدة والعقم عن المراجعة واعادة النظر.
تبدو فرضية الانتحار الان ممكنة لكن لماذا يستغرب البعض ان طبيبة في الثلاثين من العمر وشابة جميلة وفي مركز وظيفي محترم وتعالج الناس من حالات نفسية وعصبية في العيادة وفي الصفحة قد انتحرت؟
سبب هذا الاستغراب هو الصورة النمطية عن الانسان في ان الطبيب حكيم وعاقل ومتماسك وان القاضي نزيه وشريف وعادل وان رجل الدين يكون دائما رؤوفا وتقياً وان المعلم لا يمكن أن يكون منحرفاً والخ.
هذه الصورة ” النمطية” للانسان اختفت من علم النفس واختفت من الرواية: قد يكون القاضي مجرماً، والطبيب منهاراً لكنه استعراضي وممثل، وربما يكون السجان رحيماً وقد ينقذ اللص الشخص الذي حاول سرقته عندما تعرض لازمة صحية وحدث هذا فعلاً.
الانسان ليس سطحاً بل طبقات عميقة وهو ليس عصياً على فهم الآخرين فحسب بل في حالات كثيرة عصي حتى على نفسه واختزاله بصفة أو صفات محددة من مواقف هو تسطيح وغباء لأن الانسان طاقة تحولات من الولادة حتى الموت بل وفي تحولات حتى في اليوم الواحد،
ولو عدنا الى تسجيل ” بان ” الصوتي الأخير لوجدنا صوت إمرأة ضجرة بعقل منظم وليست في لحظة قرار خطير، ولو نظرنا الى صورها الضاحكة والمبتسمة دائماً لوجدنا إمرأة حيوية سعيدة مقبلة على الحياة،
لكن كل هذا غير صحيح، لا هي بعقل منظم ولا كانت سعيدة بل كانت مثل غيرها في أوقات المحن تلعب دوراً كما هو متوقع منها أن تكون،
في حين تتآكل من الداخل وتتداعى وتنهار فجأة في الظاهر لكن كل هذا مر بنفق طويل من المعاناة وكما تعترف في التسجيل الاخير وفي ليلة الحادث بل قبل حوالي ساعتين منه” لم يعد لدي أي خيار”: لقد إستُنزفت تماماً وفقدت كل طاقة على المقاومة.
ومن سوء حظها أن يكون الى جانبها تلك اللحظات العصيبة شقيقها الذي يعاني هو الآخر من اضطرابات نفسية مما يؤكد انها عاشت في ” مكان مريض” ولا يشفى الانسان من مرض نفسي ولو كان طبيبا نفسياً لو عاد نهاية العمل الى المكان الذي أنتج المرض. إن سيغموند فرويد مؤسس ورائد علم النفس الحديث كان قد إنتحر.
قد يقول البعض ان ظروفها ليست بالسوء الذي يستدعي الانتحار، لكن البشر طاقات وقدرات على التحمل وليست هناك ظروفا قاسية أو سهلة بل هناك إرادة تحمل : هناك من يخاف عبور ساقية وهناك من يزدهر في سباحة الامواج العاتية. الانسان لا يواجه الحدث بلا” حقيبته الخلفية” أي ماضيه وتجاربه وقناعاته التي تلعب دوراً سلبياً أو إيجابيا في تجاوز الحدث أو في السقوط.
بان في كل الأحوال ضحية وجريحة عقلية غير مسؤولة تزرع في الانسان منظومات من العقد النفسية من الطفولة وتتضخم مع الوقت حتى الانهيار الاخير الذي لا يكون الانتحار شكله الوحيد بل هناك اشكال من الانتحار في الحياة أقسى من الانتحار المادي عندما يصل الانسان الى درجة كراهية الذات والسقوط في الابتذال ولا يعود يفرق بين الحياة الحقيقية والحياة المزيفة، وعندما وجدت” بان” أنها لم تعد تستطيع أكمال الطريق ولكي لا تبتذل وتتداعى في الحياة، قررت الغاء وجودها وقررت الرحيل.
فشلت في الحياة في أن ترى نفسها محبوبة وجميلة وطيبة لكن الموت أثبت عكس ذلك في تضامن آسر وعظيم وغير مسبوق وكان عليها الإنتظار.