بروفة أخيرة لحذف الحياة…..بقلم محب خيري الجمال

مساء الخير يا ضوء، قلتُها كمن يبصق اسما
ظلّ عالقا بأسنانه ثلاثين حياة
ولم يستطع نطقه دون أن يتقيأ نفسه.
في المساء الذي لم يعد يشبه الليل،
تجشأتُكِ من حنجرتي كآهةٍ حارقة
وتركتكِ تتخبطين على بلاط المعنى،
كذبابة فقدت البوصلة.
أنتِ مجرد نصٍّ غير قابل للتحرير،
جملةٌ سكرانة
تركت أثر كحلها على مخدتي،
وغادرتْ قبل أن أغتصب التأويل.
لقد كنتُ أتقيأ الكلمات
كلما حاولتُ كتابة شيء نظيف.
لا نظافة فيكِ ولا في اللغة،
ولا في هذا الوطن الممتد كأمعاء مكشوفة.
أنتِ والكتابة؟ أسوأ حبٍّ ثلاثيّ
دخلته دون واقٍ من الفكرة.
كنتِ تشربينني نقطةً فنقطةً
حتى تبقّى مني ظلّ ظلي
وهل تعرفين كم هو سخيف
أن يضاجع الظل ظلّه في زجاج مرايا مهشّم؟
أنا منهك. من كل شيء. من الوضوح. من الأحلام المتأخرة
من الطموح وهو ينبح في داخلي كلباً مشرداً لا أحد يطعمه.
أريد أن أتخلّص من كل ما يؤرقني:
أوّلهم أنتِ
ثانيا الكتابة
وثالثا الحياة بكامل عدم ضرورتها.
صرتُ أدوّن لائحة اغتيالات شعرية:
القصيدة. نعم، القصيدة التي خذلتني عند أول انهيار،
التي خفضت صوتها حين علت جراحي،
التي حين ناشدتها أن تكون يدي،
تحولت إلى قيدٍ مطرز بالأوزان.
كل سطرٍ فيها كان قنبلة مؤجلة.
كل بيتٍ وهم، وكل قافية بابًا إلى متاهة جديدة.
(1)
ضوء.
مساء الخير يا ضوء، ما عدت أراك نورًا.
أنت فتحة زائدة في جدار الظلمة،
لا تكشف، لا تدفئ، لا تهدي.
ضوءك بارد ككفِّ قابضٍ على لا شيء،
يسيل على وجهي كدمعة بلا سبب.
ضوءٌ لا يرى، ولا يُرى،
بل يصرخ في الفراغ ثم ينطفئ.
(2)
أول كلمة نطقتها أمي.
لا أذكرها،
لكنني أسمع صدقاها في كل صمت،
كأنها كانت لا، أو ارجع،
أو ربما مجرد تنهيدة حائرة،
ضاعت بين صدرها والهواء.
كم مرة حاولتُ أن أكتبها؟ ولا مرة صدقني الحبر.
(3)
اسمي.
اسمٌ مشروخ
تردده بطاقات التعريف
ولا يعرفه أحد في النداء.
اسمي، كدمةٌ لفظية وضعتها أمي بين صراخ الولادة
وسعال القابلة.
أريد التخلص منه
كما يتخلص الانتحاري من هويته.
(4)
الحب.
تلك الخدعة القديمة،
تلك الزهرة البلاستيكية التي
لا تذبل لأنها لم تحيَ أصلًا.
الحب، قبلة على جبين مقصلة،
رسالة بدون عنوان،
قصة تبدأ بجملة عاطفية
وتنتهي بقائمة مسحورين.
(5)
البلاغة،
التي تخفي الكدمات.
ذلك المسحوق اللغوي
الذي يغطّي الزُّرقة تحت العين.
كلما كتبتُ شيئا جميلا،
عرفتُ أن هناك شيئا قبيحا يريد أن يُخفى.
البلاغة، ستارةٌ ناعمة تُخبئ وراءها
طفلا يبكي تحت الطاولة.
(6)
الطفولة.
نسيتُها عمدًا،
أو أنها نسيتني كما ينسى الحلم
من أي نافذة دخل.
الطفولة، ليست بيتا، بل أنقاض بيت.
وليس فيها ملاكٌ صغير،
بل طفلٌ حافي القدمين
يركض خلف لعبة مكسورة
وسط قصف متقطع من العائلة.
(7)
الوطن.
أمعاء مكشوفة.
أرض لا تسند، بل تبلع.
وطنٌ يشبه سجنا كبيرً
لا يملك حارسه المفاتيح.
كلما حاولتُ أن أكون فيه،
سألني عن اسمي،
وحين نطقته، صفعني.
(😎
الآلهة الصغيرة في داخلي.
تلك الأصوات التي كنتُ أناجيها سرا،
وأخبّئها في جيب معطفي،
صارت تنام قبلي، وتستيقظ متعبة.
ما عدتُ أؤمن بشيءٍ
سوى أن الفراغ لا يحتاج إلى إله.
(9)
الكتابة.
مساء الخير يا ضوء،
الكتابة خيانة.
هي الرسالة التي كتبتها لأُنقذ نفسي،
ثم قرأها الجميع ولم يرسل أحدٌ قاربا.
الكتابة، محاولة يائسة لرسم بابٍ على الحائط،
والهروب إليه كل ليلة كأنّه موجود.
الكتابة نزيفٌ متأدّب،
يضع قفازاتٍ بيضاء قبل أن يقطع وريده.
(10)
أنا لا أريد أن أكتب بعد الآن.
ولا أريد أن أُحب،
ولا أريد أن أشرح هذا الرفض لأحد.
كفاني التورط في صناديق البريد،
كفاني أن أكون لغةً تنزف
ولا أحد يقرأ.
دعيني أقولها بوضوح سافل:
خلاص.
انتهيت.
ما عدت أبحث عن مجاز يُقنِعني بالحياة
ولا استعارة تُشبهني
ولا امرأة تُجيد صفع المعنى خارج جسدي.
كل شيء انتهى حتى التشبيه.
وها أنا،
أخلع أصابعي واحدةً تلو الأخرى
كأزرار قميصٍ ملّني.
ثم أصفق للبياض صافرة النهاية.
بلا دم
بلا أثر
بلا حتى ورق.