رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب:قلق الزوال

كتب “سيغموند فرويد” مقالةً عام 1919 بعنوان ” الزوال” عن حادثة غريبة مع الشاعر الالماني الكبير ماريا ريلكه عندما كانا يعبران حقلا والازهار مشرقة وفجأة بدا على ريلكه أنه على وشك البكاء. سأله فرويد” ماذا بك؟ انه يوم جميل وهناك نباتات جميلة من حولنا، وهذا رائع”.
أجاب ريلكه :” لا أستطيع تحمل حقيقة أنه في يوم ما كل هذا سيفنى. كل هذه الأشجار، كل هذه النباتات، كل هذه الحياة تسير إلى الفناء”.
خجل الشاعر الكبير ماريا ريلكه من مشهد موت الازهار يوماً وزوال ما هو جميل الآن ، أي أن ذاكرة الشاعر مرتبطة بالمستقبل، بما سيزول يوما وهو قائم الآن. هذه اللحظة بالذات، لحظة القلق من الزوال، في قمة الامساك بلحظة جميلة، حنين متجه الى المستقبل وليس الى الماضي.
الحنين لغة هو الشوق لكن الحنين أعمق من هذا الجانب. في روايته” الجهل” يصف ميلان كونديرا الحنين:
” “يبدو الحنين كأنه مكابدة الجهل. أنت بعيد ولا أعرف كيف أصبحت. بلدي بعيد ولا أعرف ما يحدث فيه”. بهذا المعنى فالحنين نوع من الوجع، وحتى المرض.
هل يمكن للانسان أن يشعر بالحنين الى كائن أو مكان أمامه؟ أي يشعر بقلق زوال من هو ماثل أمامك كما في حالة ريلكه، و والخوف من فراغ من أنت، الآن، ممتلئ به؟ والحنين الى من تمسك به اللحظة؟ وقلقك من فقدان من يملأك بالطمأنينة، الآن؟
الحنين عادة يتجه نحو الماضي، مكان أو شخص، أو علاقة مفقودة، أو موت، أو سفر، الحنين ليس شعوراً في إتجاه واحد،
قد يكون الحنين لمكان أكثر قسوة عند شخص من الحنين نحو شخص غائب.
هو شغف وشوق وحزن نحو جزء مفقود، لكن كيف يمكن الشعور بالحنين أمام من هو حاضر أمامك؟
ليس كل الناس يعيشون الحنين بشكل متشابه وأقسى أنواع الحنين هو الخوف من فقدان من هو حاضر، الخوف من” زوال” الحضور البهي.
من فراغ الامتلاء ، تلك اللحظة الباهرة التي أحسها الشاعر ريلكه خلال عبور حقل صيفي جميل وللتذكير ان موقف فرويد كان عكس موقف ريلكه وملخصه ان على ريلكه أن يعيش تلك اللحظة بدل تخيل زوالها. لكنها وجهة نظر عالم نفس منغرز بالحاضر والتجربة وليس شاعراً حسياً مرهفاً.
فرويد يفكر ويرى بعقله ، في حين يفكر ويرى شاعر المانيا الكبير ريلكه بخياله والخيال المبدع النظيف أهم من المعرفة العقلية المحدودة.
متى يحدث هذا الشعور في الحنين المتجه نحو مستقبل غياب؟
ليست هناك قاعدة كقانون لذلك، لكن يحدث عادة في لحظة شديدة الكثافة من الفرح البري النقي:
إلى أي درجة من الفظاعة أن تتوجع وأنت في ذروة الفرح، أن تخاف وأنت أمام طمأنينة، أن تتداعي وأنت في قمة تماسكك؟ وأن تفرغ وأنت ممتلئ؟
لطالما فكرت في هذه اللحظة التي تجمع ثلاثة أزمنة في ومضة:
ماضي ملغي، حاضر كثيف يشبه الغياب، مستقبل قلق.
قد يكون الذين عانوا من حالات فقدان، أمكنة أو أشخاصاً، هم أكثر حساسية من غيرهم في الخوف من فقدان جديد ، من زوال هذه الكثافة من طاقة السحر والخيال:
أن تعيش الفرح بكثافة وإمتلاء وأنت تعيش قلق الفقدان، كيف يتداخل شعوران متناقضان في لحظة واحدة؟
خلال قراءة رواية” الهوية” ميلان كونديرا وجدت الهاجس نفسه:
يجلس جان مارك وحبيبته شانتال لتناول العشاء على ضفة البحر. كل شيء أبيض. الطاولات والكراسي والبحر والقمر والارض والمصابيح الصيفية والاغطية، جو حلمي شفاف حتى الهواء أبيض،
لكن شانتال تحس بحنين لا يقاوم نحو جان مارك وهو جالس أمامها. يحدث مارك نفسه:
” حنين؟ كيف يمكن لها أن تحس بالحنين وهو تجاهها؟
كيف يمكن معاناة غياب من هو حاضر؟ يمكن معاناة الغياب في حضور المحبوب، اذا كان يتلامح للمرء مستقبل لا يعود فيه المحبوب موجوداً”
زوال من هو حاضر؛ والخوف من فراغ ممتلئ، وفقدان من هو الأكثر حضوراً، الآن.
قد تكون الكتابة السردية أفضل إمكانية لتثبيت الزوال والقبض على اللحظة الهاربة وتحويل الغياب الى حضور أبدي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى