حمزه الحسن يكتب :المجتمع المستشفى

ـــــــــ المريض الخارج من العيادة سليماً لن يشفى إذا عاد للمكان نفسه الذي سبب المرض* إريك فروم، عالم نفس وفيلسوف ومؤرخ.
هناك جوانب خفية لم يتطرق لها أحد في قضية الدكتورة المرحومة بان زياد ونحن نحاول ، ثانيةً، التركيز عليها، خارج التوظيف السياسي، وخارج شروحات أطباء التشريح، وخارج تفاصيل الشرطة الجنائية، وخارج توزع واختلاف الجمهور حول هذه المأساة.
ومن يعتقد أن قرار المحكمة” بغلق القضية” هو واهم لأن هذا النوع من القضايا لا يسقط بتعاقب الزمن ويُفتح الملف في ظروف مختلفة وتحت سلطة قضائية غير مسيسة ومنحازة ونظام سياسي مختلف مهما طال الزمن.
إنتحرت أم نُحرت؟ تلك قضية لا يمكن الحسم بها في ظروف اليوم التي تتداخل فيها مصالح أطراف تداخل أنياب الكلب، ولا تحت مشاعر التفكير الرغبي في الثأر لها ولا في فرصة الانتقام من الادارة المحلية في البصرة التي يترأسها شخص غير مسؤول وطائش ومغرور ومحمي من قوى محلية وخارجية لكن هذه القوى لن تتمسك به الى ما لا نهاية وفي كل مرة تنظف خلفه.
بان، هنا، جوهر القضية التي ضاعت مأساتها في هذا الجو الصاخب وقد عاشت حياة بائسة معقدة للغاية لكنها تكابر وتستعرض وتخفي وهذا النموذج شائع في مجتمع قمعي صارم بأحكام فجة أمام الاعتراف بالمرض النفسي كما لو انه عاهة أخلاقية مع أنه حق طبيعي في أن يمرض الانسان وليس حقاً مكتسباً في السياسة والاقتصاد والثقافة ، والذين يعتبرون المرض النفسي عاهة ومعارة هم ليسوا مرضى نفسيين يمكن علاجهم بل هم أنذال يعانون من ضحالة أخلاقية ومن تشوه عضوي بنيوي في الشخصية لا يمكن علاجه مطلقاً لأن البنية الجوهرية للشخصية مصابة بالكامل ويتحاشى كبار العلماء الدخول مع هذه النماذج المشوهة معرفياً Cognitive distortion في التحليل النفسي العميق لكي لا تهدم الشخصية، أي العمش ولا العمى، لذلك يكتفون بعلاجات مخففة.
عندما كانت بان تخرج من العيادة النفسية لا تذهب الى منزل طبيعي بل الى منزل هو مصح عقلي ،الى مكان مريض، ومن شاهد كيف تصرفت الأم بــــــــــ” لامبالاة” حسب الوصف العام لم يكن يعرف ان هذا الجمود العاطفي ليس لامبالاة لأن هذه اختياراً، وأما الجمود العاطفي أو بتعبير أدق” الثبات الإنفعالي” للأم هو أبرز خواص الشخصية النرجسية الخفية والسيكوباتية، ولم تكن الحكمة الشعبية العراقية غائبة في توصيف هذه الشخصية قبل كشوفات علم النفس عندما وصف البسطاء الحكماء هذا النمط بــــــــــ وجه جينكو ، أي وجه صفيح بلا انفعالات ولا مشاعر.
في كل البحوث والدراسات حول الشخصية السيكوباتية والنرجسية الخفية يكون” الثبات الانفعالي” من الخواص الرئيسة العشرين وعادة ما نخطئ في التوصيف ونحلله تحليلاً أخلاقياً سطحياً زائفاً كثبات صدام حسين تحت المشنقة ليس عن شجاعة بالمطلق، من يدفن نساءً وأطفالاً رضعاً أحياءً، لا يعرف الشجاعة لانها ترتبط بالنبالة. كثير من المجرمين والشقاوات ، الفتوة، وقفوا بثبات في الظاهر لحظات الاعدام بل شتموا وبصقوا على سجانيهم وسخروا منهم.
من المستبعد حتى الان ان تكون الأم متواطئة ولكن طبيعتها المرضية وثباتها الانفعالي فسر الأمر كذلك كما ان هذا الجمود العاطفي الذي يلوح على وجوه هذه النماذج في أوقات قاسية وكارثية ليس خياراً وليس إرادة بل هو سلوك داخلي قهري للسيكوباتي والنرجسي الخفي ومصمم نفسياً وعقلياً على هذا الموقف السام والمنحرف ولو احترق كل من في المنزل أمامه وهو محروم من العاطفة والانفعال والمشاعر وهذا الموقف يأتيه من اللاوعي العميق والجزء المنحرف في دماغه حيث تغيب اللوزة الدماغية Amygdala في الجانب الأيسر من المخ بسبب وراثي أو ضغوط اجتماعية مركز المشاعر والعواطف لكن هذا الصنف يتصرف كما يتوقع منه الاخرون ويمثل حسب الشخوص والمناسبات ويحزن مثلا في مأتم ويفرح في حفل لكنه يكذب في كلا الحالتين بل يحزن ويفرح كلعب أدوار ، أي مشاعر باردة وليست مشاعر وجدانية حقيقية.
لذلك من الصعب على من يتعامل مع هذا النموذج أن يعطي رأيا قاطعاً فيه لأنه يعطي انطباعات مختلفة حسب نوعية الشخوص الذي يلتقي بهم، هي أو هو قديس مع جماعة ومع أخرى منافق ومع ثالثة عاشق ومع جماعة رابعة لص ومع خامسة منحرف وعندما يأتي وقت هؤلاء لتقييمه لن يعثروا على وجه واحد بل أمام عدة وجوه متناقضة وهو يتنقل بين شخصياته الداخلية بسلاسة كما لو يتنقل في غرف منزله.
عندما تعود بان من العيادة تنتظرها أم سيكوباتية وضعت الجمهور أمام محنة نفسية في ذلك الجمود والثبات الانفعالي الذي احتاروا في تفسيره، وتتضاعف مشكلة بان عندما يكون الشقيق أيضا يعاني من اضطرابات نفسية ومن المرجح أن يكون الأب مضطرباً ولم يظهر أي مشاعر أمام موت فاجع قلب أولويات الجمهور ، أي انها تعود من العيادة الى منزل هو مصح نفسي وهو صورة مصغرة لمجتمع في أصعب أوقاته، أو المجتمع المستشفى.
مأساة بان مأساة مجتمع يعيش على الأقنعة ويمثل دور الواقف والقوي وهو يتداعى.