كتاب وشعراء

اضاءة نقدية الشاعر والناقد العراقي القدير علاء الدين الحمداني الحمداني في نص نبض الرغب للشاعرة السورية مرشدة جاويش

اضاءة نقدية للنص (نَبْضُ الرَّغَبِ)، للشاعرة مرشدة جاويش

#نَبْضُ #الرَّغَبِ

كَمْ بَقْعَةٍ لِلْعِشْقِ تَلْعَبُ فِيَّ أَرُوقَةَ الزَّمَنِ
حَتَّى بَزَغْت كَرُدَهَةٍ
خَلَعْتُ رِدَاءَ العَيْنِ ثُمَّ
تَنَاهَبَتْ ذَاتِي
فَخَرَجْتُ مِنْكَ إِلَيْكَ
فَاخْرُجْ مِنْ جَوَارِحِكَ الَّتِي
عَبَرَ النِّدَاءُ بِسَقْسَقَاتِ الحُلْمِ مَوْجَ نَزِيفِهَا حَيْثُ مَلَكْتُهَا
هَذِهِ رُوحِي كِتَابٌ عَاثِرُ الصَّفَحَاتِ
فِي جِهَةِ الْيَمِينِ
وَكَانَ قَلْبُكَ يَرْعَشُ الْوَجْدَ
الْمُحَلَّى فِي عَرَائِشِ غُرْبَتِي الْقُصْوَى
وَوَهَجُ تَوَحُّدِي جِهَةَ الْيَسَارِ
وَمِيَاهُ عِشْقِكَ بَيْنَ أَوْرِدَتِي
تَسِيرُ عَلَى ارْتِعَاشِ النَّبْضِ فِيكَ
فَاذْهَبْ لِقَلْبِكَ مُسْرِعاً
وَتَحَسَّسِ الْوَشْمَ الَّذِي تَرَكَتْهُ آثَامِي عَلَيْهِ
نَادِنِي مِنْهُ إِلَيْهِ
تَرُدُّ النَّارُ صَامِتَةً
وَتَمْلَأُ جَرْتَيْنِ مِنَ الْعَسَلِ
وَاسْكُرْ صَلَاةً كُنْتُ أُخْفِيهَا بِخَمْرِ التَّمْتُمَاتِ
شَفَاهَ هَمْسٍ
فِيكَ تَذَرِينِي وَتَجْمَعُنِي
نِثَارَ الرَّغْبَةِ الْأُولَى
فَهَلْ تَسْتَطِيعُ حَمْلَ أَنُوثَتِي؟
هَلْ أَثْقَلَتْكَ مَشَاعِرِي؟
وَرَضِيتَ أَنْ تُلْقِيَ بِصَخْرِ تَلَهُّفِي
فَارْحَلْ وَخُذْ أَنْفَاسَكَ الْمُتَكَوِّمَاتِ عَلَى فَمِي
كُنْ رَاحِلاً بِي
بِصَبَوَةِ خَافِقِي
بِصَلِيلِ أَوْهَامِي
بِآيَاتِ الْعُرُوجِ إِلَى سَكَنٍ
لِقَاعِ النَّشْوَةِ الْأُخْرَى
وَثَبِّتِ الرِّيحَ فِي عُنْتِ الْوَهْنِ
إِذْ لَيْسَ تَعْلُونِي طَواحِينُ الْهَوَاءِ وَلَا وَثَنٌ
غَيْرَ امْتِشَاقِ النَّايِ مِنْ سَفَرِ الزَّمَنِ
إِنِّي هُنَا امْرَأَةٌ مِنَ الْجُورِيِّ
تَفْتَحُ طَاقَةَ الْمَعْنَى
لِكُلِّ الْعِطْرِ
فَاخْرُجْ مِنْ أَنَايَ فَرَاشَةً
ثُمَّ احْتَضِنْنِي وَاسْتَرِيحْ

مرشدة جاويش

الإضاءة/
القصيدة /رحلة وجدانية عميقة تغوص في أعماق الذات الأنثوية وتصارعها مع الرغبة، والوجود، والآخر. إنها ليست مجرد قصيدة نثرية، بل هي فضاءٌ شعري مكثف، تُنسج خيوطه من لغة مجازية غنية وإيقاع داخلي هادر. تَجَسَد في رص المعاني ضمن جُمل مؤثرة و واعية لتدعونا دون فكاك أن نسترسل طواعية لهذا الثراء الحي…
يستوقفنا العنوان (نَبْضُ الرَّغَبِ) كمدخل دلالي منذ اللحظة الأولى في صميم التجربة. ف (النبض) يشير إلى الحياة والاستمرارية والإيقاع الحيوي الداخلي الذي لا يتوقف.
أما (الرغب) فهو ذلك الشوق أو الشهوة الوجودية العميقة التي تتجاوز الرغبة الجسدية لتمسّ روح الإنسان وتطلعاته. وعلى مايبدو فأن العنوان بهذا يعد القارئ برحلة داخل جسد وروح تعيش حالة من التوق الدائم.
نأخذ ب عين الاعتبار حين تبدأ القصيدة
بحالة من التشتت والتبعثر (كَمْ بَقْعَةٍ لِلْعِشْقِ تَلْعَبُ فِيَّ). الذات هنا ليست وحدةً متماسكة، بل هي /أروقة زمن/ متشعبة. عملية،/خلع رداء العين/ هي لحظة تجرد وانزياح عن العالم المادي المحسوس للدخول إلى عالم أعمق، حيث تُتناهب الذات (تُقسم وتُجزأ) لتبدأ رحلة الخروج (فَخَرَجْتُ مِنْكَ إِلَيْكَ). هذه العبارة المفتاحية تعبر عن مفارقة وجودية/الخروج من صورة الذات المتخيلة أو من صورة الآخر للوصول إلى حقيقة ذلك الآخر أو الذات/. إنها دعوة للتحرر من القوالب. وصراع للذات والانكسار للوصول إلى الكينونة..
ترسم الشاعرة خريطة وجودها عبر جسد القصيدة. فهي تقسم ذاتها إلى الى جهتين،(جهة اليمين) المتمثلة بالروح والكتاب العاثر الصفحات و (جهة اليسار) المتمثلة بوهج التوحد و الذات المنعزلة المتألقة، وبينهما /مياه عشقك/التي تسري كشريان حياة. هذا التقسيم ليس مكانياً فحسب، بل هو تقسيم نفسي وروحي، يجعل من الجسد فضاءً تتقاطع فيه أبعاد الحب والوحدة والرغبة..
تتفجر القصيدة بصور مجازية جريئة ومبتكرة تخلق الانزياح الذي يهز وعي القارئ:(رُوحِي كِتَابٌ عَاثِرُ الصَّفَحَاتِ)، تشبيه الروح بكتاب غير منظم، مليء بالأخطاء والفوضى، يعبر عن تعقيد التجربة الإنسانية وعدم كمالها..
جملة حيوية بانزياح حركي (تَسِيرُ عَلَى ارْتِعَاشِ النَّبْضِ فِيكَ) توحي بالتواصل الحميم الذي يتجاوز الكلام ليصبح نبضاً متزامناً.
(اسْكُرْ صَلَاةً كُنْتُ أُخْفِيهَا بِخَمْرِ التَّمْتُمَاتِ) هنا يحدث اندماج مذهل بين المقدس (الصلاة) والدنيوي (الخمر و التمتمات)، ليعبر عن قدسية اللحظة العاطفية والوجدانية التي كانت تُخفيها خلف التلعثم والهمس..
(غَيْرَ امْتِشَاقِ النَّايِ مِنْ سَفَرِ الزَّمَنِ): تستوقنا الجملة بعذوبة ومغزى سريالي ساحر،
صورة موسيقية جميلة، فالناي لا يُمتشق كالزهر فحسب، بل هو استعارة للشوق الذي يمتص آلام وعبق الزمن.
تتوجّه الشاعرة بأسئلة وجودية مباشرة وجريئة تطرحها على المحبوب/الآخر، وهي أسئلة تخترق الصمت وتكشف عن هشاشة وقوة الأنوثة في آنٍ واحد:
فصوت الأنثى الجريء واستفهامات الوجود؟
(فَهَلْ تَسْتَطِيعُ حَمْلَ أَنُوثَتِي؟ هَلْ أَثْقَلَتْكَ مَشَاعِرِي؟) هذه الأسئلة ليست استفسارية بل هي اختبار للقدرة على التحمل وقبول الكينونة بكامل ثقلها .إنها (تتحدى) المجتمع وتصرخ بأنوثة لا تطلب الإذن.
تنتهي القصيدة بدعوة مفعمة بالتناقض الهادئ:(فَاخْرُجْ مِنْ أَنَايَ فَرَاشَةً ثُمَّ احْتَضِنْنِي وَاسْتَرِيحْ). الخروج كـ /فراشة/ يرمز للخفة بل للجمال والتحول. يليه طلب (احتضنني واسترح)، وهو جمع بين الحاجة إلى الأمان والاتحاد والراحة النهائية. إنه طلب للتحرر من ثقل الذات (اخرج من أناي) والاندماج في حالة من السكون المضطرم ضمن (حضن الآخر).
القصيدة (نَبْضُ الرَّغَبِ) تنتمي إلى شعراء التمرد الداخلي والبحث عن الهوية. إنها نصٌّ يرفض التسطيح، ويغوص في أعماق النفس البشرية بكل تعقيداتها وتناقضاتها. لغة مرشدة جاويش هنا هي لغة شاعرة متمكنة، تعرف كيف تحول الوجع إلى جمال، والرغبة إلى فلسفة، والجسد إلى كون شاسع من الرموز.، هي تأمل في الرغبة كقوة وجودية تدفع الذات نحو الانكسار والاكتمال في آنٍ واحد.، إنها قصيدة ستترك أثرا ويتردد أصداؤها في ذهن القارئ طويلاً بعد انتهاء القراءة..

علاء الدين الحمداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى