كتاب وشعراء

إِسْكَافِيَّ القَصْر …..بقلم نعمان رزوق

أُحِبُّ أن أكونَ إِسْكَافِيَّ القَصْر ..
ذاكَ الّذي يُصلِحُ نِعالَ الملوك
و يعرفُ مقاسَ أقدامِهم أكثرَ من صُراخِ الفقراء ،
أُحِبُّ أن أكونَ الأخيرَ
الذي يَرْمي إليه الحرّاسُ زوجَ حذاءٍ مُمزّق
فيه دمٌ جَفَّ
و خيطُ ماضٍ يُشبهُ طريقَ العودةِ من الجبهة ،
فأنا الّذي لم يُقَبِّل يداً
لكنه جَرَّبَ أن يخيطَ وطناً بحبلٍ مُحْتَرِق ،
أن يُرَمِّمَ خارطةً
بِحِبْرٍ من بُصاقِ التائهين .
أحبُّ أن أكون إسكافيّ القصر ..
لا أنحني لأنهم يأمرونني
بل لأنّ مساميرَ السلطةِ كثيرةٌ
و لأنّ العرشَ العالي
يحتاجُ إلى صوتٍ يأتي من الأسفل ،
صوتٍ لا يُطرِب ..
لكنّه يَعرفُ كمْ ثَمَنَ الكرامةِ في السّوقِ السوداء .
في طُفولتي لم أطلبْ سيفاً
بل مِطرقة ،
و لم أُرَتِّلْ نشيداً ..
بل كنتُ أعدُّ الثقوبَ في حذائي
و أحسبُها بلادي ،
ثُقبٌ للموتى
و ثُقبٌ للهاربين
و ثُقبٌ لِمَنْ نَسُوا أسماءَهم
تحتَ نِعالِ الخُطَب .
أنا لستُ شاعراً
و لا مواطناً صالحاً ..
أنا إسكافيُّ القصر
الذي يعرفُ أن الملوكَ
يَدوسونَ بأحذيتهم الأنيقة
على وطنٍ مُهْتَرِئ
نَسِيَتْهُ الخِياطةُ الأخيرةُ للحكاية ،
أنا الذي يفهَم الملوكَ من نِعالِهم ..
من الخُدوشِ الصغيرةِ عندَ الحوافّ
من آثارِ الطينِ العالقةِ في الزوايا
من رائحةِ المسيرِ فوقَ أوجاعِ الناس ،
هذا مَلِكٌ
يمشي بخِفّةِ من لم تطأْ قدمُه ساحة الوغى ..
و ذاك
تدلُّ قَدَماهُ على أنه يركضُ دائماً
خلفَ ظِلِّه الهاربِ من حيونتِهِ الرفيعة ،
و ذاك نعلٌ واسعٌ جدّاً
تَسكنُه خُطَبٌ عن العدالة
و حفنةُ عُمْلاتٍ مُزَيَّفة تشبهُ حزمة مفاتيح سجن ..
و آخرُ ضيّقٌ
يصرخُ تحتَ الكعبِ العالي
أنّ صاحبَهُ يخافُ من ظِلّهِ أكثرَ من الخيانة .
كلُّ نعلٍ رِواية
كلُّ خيطٍ فصلٌ عن بلدٍ منهوب
كلُّ تَمَزُّقٍ ..
سطرٌ مَحْذُوفٌ من الدستور .
أنا الإسكافيُّ الوحيد
الذي قرأ التاريخَ
من باطِنِ القَدَم
و فهِمَ السياسة
من آثارِ السيرِ على رِقابِ الحالمين
فالملوك لا يُخفونَ أسرارَهم في الخزائن
بل في نِعالِهم ..
و ما أكثرَ ما مشتِ الكذبةُ على سجّادِ الحقيقة !
أُحِبُّ أن أكونَ إِسْكَافِيَّ القصر ،
لا سفيراً يخبئ قِوادته للضرورة القصوى
و لا شاعراً يُسَلِّي البلاطَ بقوافٍ مُطَأْطِئَة ،
بل يداً خَشِنةً
تعرفُ أنّ دمع الوطن لا يُمسَحُ بمنديل ..
و إنّما
بجلدٍ نظيفٍ يُخاطُ بالدَّم .
أُحِبُّ أن أكونَ إِسْكَافِيَّ القصر
لأنني لا أُصفِّق
بل أسمعُ كلَّ تصفيقةٍ
كما تُسمَعُ الصَّفعة ،
و لأكونَ شاهداً
حينَ يَنْكَسِرُ كعبُ الكَذِب ..
و حينَ يسقطُ الملكُ
لأنّ نعلَهُ ضاقَ عليه من الغرور ،
و لأقولَ في النهاية ..
لم يسقطِ الحذاءُ من أقدامِهم أبداً
بل ..
هُم من سقطوا من الإنسانية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى