كتاب وشعراء

عُطلةٌ في جسدٍ غير صالحٍ للتقاعد……بقلم محب خيري

اليوم يومه عطلة، لكن ما زلت أعمل.
أُعيد ترتيب الصمت فوق رفوف الغرفة،
أنتف الغبار عن صورتي مع امرأةٍ لم تعرفني،
أمسح بقميصي دمعةً لم تسقط لكنها جفّت على خدّي كوشم.
أفتح النافذة ولا أتنفّس.
أخشى أن يدخل الهواء محمّلاً بالأمل،
وأنا قرّرتُ الانقطاع عن ذلك المخدّر منذ عامين ونصف.
***
أعيشُ في عزلةٍ مترهّلة،
متدلّية من حافة اليوم كغسيلٍ لم يُرفع بعد المطر.
لا جرس باب، لا زائرون،
حتى ظلّي اعتذر عن صحبتي هذا الأسبوع.
غرفتي صارت تشبه جمجمة،
القصائد تئنُّ في الزوايا،
تطلب الدفن لا القراءة،
والكتب فوق المنضدة تتثاءب،
كأنها تنتظر أن يأتي أحد ليغلقها إلى الأبد.
***
بالأمس سقطتُ مغشيًّا عليّ.
لا دراما، لا موسيقى تصويرية،
فقط قلبٌ تذكّر فجأة أنه ليس مُلزَمًا بالبقاء.
رأيتُ السقف يتموّج،
تخيلتُ أنني أغرق في بحرٍ مصنوعٍ من صفحات ميتة.
فكرتُ في الموت: هل سيعثر عليّ أحد؟
أم سأتحلّل كفكرةٍ لم تُكتب أبدًا؟
هل سيقرؤونني بعد رحيلي؟
أم أنني مجرد نَفَسٍ أخطأ الطريق؟
***
تحدّثتُ إلى الثلاجة. قلتُ لها: لو متُّ الليلة، لا تذبحي اللبن،
ولا تبكي على الطماطم.
ابتسمتْ كآلةٍ تعرف أكثر ممّا تقول،
وتركتْ ضوءها الأصفر يُنير قلقي.
مرآتي توقفت عن عكس وجهي،
كأنها قالت: كفى، لقد شاهدتك بما يكفي.
وأنا..
جلستُ على الأرض، أحاول أن أشرح للموت أنه تأخّر،
وأنني أعدّ له مذكرة تفاهم منذ سنوات،
وأن القصائد لم تعد دروعًا
بل ثقوبًا أُطل منها على خيبتي الشخصية.
***
الجسد…
كومة خشبٍ بلّله المطر ونسيه النجار.
اليد اليمنى ترتجف كجندي سابق،
واليسرى لا تكتب،
بل تتحسس الندوب لتتأكد أنني ما زلتُ هنا.
الجوع…
لا جوع،
فقط شهوة قديمة للعناق،
لأصابع تمشط رأسي كما تفعل الأمهات في آخر الأحلام.
***
كتبي بدأت تتآكل من الأطراف،
كما تتآكل الذاكرة في رأس رجلٍ لم يعد يتذكر من هو،
كل صفحة تحاول الانتحار على طريقتها،
إحداها اشتعلت حين قرأتها بصوتٍ عالٍ،
وأخرى تبولت على نفسها من فرط التهميش.
أحفر بإصبعي على الجدران،
كمن يكتب اعترافه في زنزانة قبل تنفيذ الحكم.
***
العزلة..
ليست مكانًا. إنها عضّة باردة على عنق الروح،
نباح كلبٍ لا يُسمعه أحد،
أنفاسك تتردد عليك
كأنك ضيف ثقيل في جسدٍ يريد أن يُغادره.
القصائد…
صارت تشبه الديدان،
تخرج من رأسي وتزحف على الطاولة،
تأكل بعضها البعض،
ثم تعود إليّ
كأبناء غير شرعيين يسألون عن اسم الأم.
***
في نهاية اليوم،
وضعتُ ورقةً بيضاء على السرير،
نمتُ بجانبها
كما ينام عاشقٌ بجوار امرأةٍ لا يعرفها
حين استيقظت، كانت الورقة تبكي.
لكنني لم أمدّ يدي.
أردتُ أن تتعلّم الحزن وحدها،
كما تعلّمتُ أنا أن أعيش دون شهية،
دون شاهد على احتراقي،
سوى نملةٍ عبرت فوق قلبي
وتركت أثرًا لم يره أحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى