رؤي ومقالات

د.فيروزالولي تكتب:صندوق التحسين أم صندوق التحسينات الشخصية؟

مقال ساخر وتحليلي عن دولة تُنظّف الشوارع من القمامة وتملؤها باللصوص

في محافظة تعز، حيث يفترض أن تبدأ الدولة، يبدو أنها بدأت – وانتهت – في “صندوق النظافة والتحسين”. هذا الصندوق، الذي وُلد من رحم الخدمة العامة، تحوّل بقدرة قادر إلى ماكينة صرف آلي لخدمة “نُخَب الديوان” و”أشباح النفوذ” و”كائنات اللجان الثورية المجاورة”.
صندوق النظافة؟
يا للسخرية. هو صندوق، نعم، لكن لم يبقَ من النظافة فيه سوى اسمها، أما التحسين؟ فقد ذهب كله لتحسين أحوال المسؤولين الذين يتقاضون مكافآت شهرية من أموال القمامة، بينما تظل المدينة تحت رحمة الذباب والكلاب الضالة، والشوارع تنضح بروائح العفن والنفاق السياسي.
المأساة بالأرقام:
عدد المستفيدين من مكافآت الصندوق قبل تعيين الشهيدة افتهان المشهري، مديرة للصندوق؟
16 مسؤولًا من ديوان المحافظة، يتقاضون مبلغًا شهريًا تجاوز الـ10 مليون ريال يمني.
نعم، عشرة ملايين من أموال عمال النظافة تذهب لـ:
وكيل أول،
وكلاء بالمفرق،
مديرو مكاتب،
سكرتير المحافظ،
مستشارون (لا يُستشارون)،
وأشباح من زمن الحزب الواحد والقبيلة الخالدة.
كلهم موظفون داخل مبنى المحافظة، أما من هم خارج المبنى؟ فاسأل الله اللطف والسلامة. يبدو أن تعز صارت مثل الدولة العثمانية في نهاياتها: كل شيء يُدار من “الحرملك الإداري”، بينما يتقاتل الناس في الخارج على لتر ماء.
المرجع القانوني: أين الدولة؟
دعونا نعود للحظة من السخرية إلى الجديّة الدستورية، مع قليل من القيء.
وفقًا للمادة (25) من قانون الخدمة المدنية رقم (19) لسنة 1991:
“يحظر على الموظف العام الجمع بين وظيفته وأي عمل آخر يدر عليه دخلاً، سواء كان من جهة عامة أو خاصة، ما لم يكن ذلك مرخصًا له قانونًا.”
وبحسب المادة (136) من الدستور اليمني:
“الوظائف العامة تكليف وطني لخدمة الشعب، وتستهدف تحقيق المصالح العامة وخدمة المواطنين.”
فهل من “تحقيق المصلحة العامة” أن تُصرف أموال النظافة لمكاتب فارهة وبدلات “عطر رسمي فاخر”؟
هل من “خدمة الشعب” أن يُجبر عامل النظافة على شراء مقشته من السوق بينما يستلم وكيل المحافظة راتبًا إضافيًا مقابل لا شيء؟
وإذا كانت هذه “اللائحة الإدارية للصندوق” تجيز مثل هذا العبث، فهذه لائحة يجب أن تُنظَّف قبل الشوارع نفسها.
كوميديا سوداء من واقع مأساوي:
هل تعلم أن الشهيدة افتهان المشهري، وهي من نزلت إلى الشارع بنفسها، وتابعت العقود، وأغلقت حنفيات النهب، لم تكن مدعومة من أحد؟
لم تكن تحمل “صُكّ الحماية الحزبية”، ولا “الوصاية السياسية”، ولا “ختم شيخ الطريق”.
جاءت لتُصلح، فاختفَت. وبقي الفاسدون يُعلّقون شعارات النزاهة فوق أكوام القمامة.
وفي المقابل، تُسند اليوم مهمات رقابية وإدارية داخل الصندوق (أو على الأقل الإشراف السياسي عليه) إلى وكيلة سابقة لقطاع الصحة، هي الدكتورة إيلان عبدالحق، بدعم سياسي واضح.
لكن السؤال:
هل تم تكليفها رسميًا بالإشراف على الصندوق؟ هل يوجد قرار محافظ؟
أين لائحة الصلاحيات؟
ما علاقة الطب العام بالنظافة العامة؟
أم أن “تدوير الكراسي” صار مثل لعبة “الكراسي الموسيقية”: من يجلس أولاً؟ من يخطف الموقع؟ ومن يمسح العرق بالنقد الأجنبي؟
حين يصبح الفساد قانونًا
في دولة طبيعية، تتبع الموازنات بند الصرف المخصص، والرقابة المالية تمر من ثلاث قنوات:
1. الهيئة العليا للرقابة والمحاسبة،
2. الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة،
3. النيابة العامة (الأموال العامة).
أما في دولة ما بعد الانهيار، فالرقابة تمر عبر:
الوسيط السياسي،
المزاج الشخصي،
والقدرة على ترتيب فواتير مزورة بسرعة.
ختام
إذا أردت أن تعرف لماذا أصبح اليمن أفقر دولة عربية، فلا تبحث عن الجغرافيا ولا عن الحصار ولا عن الحروب فقط.
ابحث عن المحافظ الذي يستلم مكافأة من صندوق نظافة،
عن الوكيل الذي يأخذ مبلغًا شهريًا ولا يعرف اسم عامل التنظيف في شارعه،
عن المسؤول الذي يلبس عباءة النزاهة، ويخفي تحتها ملفات الفساد،
وعن “الشهيدات” و”الشرفاء” الذين اختفوا واحدًا تلو الآخر، بصمت، لأنهم رفضوا أن يكونوا جزءًا من هذه المسرحية القذرة.
يا أبناء تعز، ويا أبناء اليمن:
نظفوا الصندوق قبل أن تنظفوا الشارع،
نظفوا القانون من الحصانة،
نظفوا الوطن من الذين تلوثت أياديهم بمال الفقراء ودماء الشرفاء.

المراجع:
الدستور اليمني (المادة 136)
قانون الخدمة المدنية رقم (19) لسنة 1991 (المادة 25)
قانون مكافحة الفساد رقم (39) لسنة 2006
اللائحة التنظيمية لصندوق النظافة والتحسين (مراجعة محلية)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى