رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : الزعيم القادم

لن ينبثق الزعيم القادم ولا جماعته من الفراغ بل من السلطة الاجتماعية ويحمل كل ما تحمل من ثقافة وتراث وعقلية واعراف.
تخيل شكل المستقبل أذا كنا نملك القدرة على التخيل وحساب الاحتمالات
ونظرية الاحتمالات Probability theory علم قائم بذاته
لدراسة الظاهرة وهي جنين ومتابعة تطورها واحتمالاتها قبل أن تستفحل وتخرج عن السيطرة لكي يتم التحكم بها في السياسة والطبيعة والرياضة والصحة والطقس والحرب وحتى في الغراميات الطارئة.
العقل السياسي الرث يضع الاحتمال الواحد لكي نُكبس كل مرة من احتمالات غير متوقعة ولامفكر فيها ولا منطقية لان واقعنا لا يخضع للمنطق والتسلسل والسياق بل للصدفة والنزوة والحدث الطارئ العنيف وحتى الحماقة وكل ما هو غير عقلاني لا يمكن ضبطه وقد تدخل المسبحة والخيرة وقراءة الكف في صناعة المستقبل.
علم الاحتمالات الذي تعرفه ربات البيوت وسواق الاجرة وعمال التنظيف في الغرب، لم يقرأه الساسة اذا كانوا قد قرأوا أي علم أو فكر أو أدب،
عدا قوائم الأرصدة وقوائم اغتيالات اليوم القادم، وقوائم الطعام.
النزاهة في السياسة كالبحث عن صوفي أو زاهد في زقاق للخطيئة أو نادي العراة لأن الشرف والسياسة عدوان تاريخيا كما ان الكذب عدو الأدب لأنه فن الأعماق الصافية النقية.
أين يمكن العثور على رئيس وزراء قوي وشريف وحازم وكفوء في غابات البنادق والازدحام والتشابه ومراكز القوى؟
اذا جاء من حرم جامعي بلا حزب، ولا فرقة حماية مسلحة، وبالكفاءة والنزاهة فقط،
وقرر الاستغناء عن الحراس والتمشي في الشوارع، وزيارة العوائل للاطلاع،
والسكن، كرئيس الأروغواي السابق، في حي للفقراء،
فسيجد نفسه في أقرب فرصة إما مرمياً فوق مزبلة في كيس قنب وقد كتب عليه، من باب السخرية:
” خل تالف أو علب بيض منتهي الصلاحية”، أو يُختطف ليظهر لنا عبر الشاشة، كزرزور ناقع بالدهن وخلفه عدد من الملثمين، وهو يشكر خاطفيه على حسن الضيافة وتوفر كل الخدمات، وشروط الحياة الضرورية،
بإستثناء عدم توفر الحياة نفسها.
أما اذا جاء من وسط عمالي ولم تكن يده ملطخة سوى بالشوك والعاقول والاسمنت، وبلا ايديولوجيا أو عشيرة مسلحة وعشرات المصارف،
والمقاولين ومحطات التلفزة،
فستتم مطاردته من قبل العمال أنفسهم في كل مكان، بالبيض الفاسد ومعجون الطماطة والاحذية المستهلكة، لأنه كان قبل يوم يقشر البصل معهم،
ويسكن في زريبة معهم، وهو متواضع وبسيط ويحمل أفكاراً منقذة،
أو بذريعة الخيانة الطبقية لركوبه سيارة رئاسية،
أو لأنه لم يقرأ جيداً شعار الملاحم والفتن العراقي القائل:
” الإمام الما يشور محد يزوره” أو يسموه” أبو الخرك”،
ولم يطلع على قاعدة ميكافيلي:
” على الحاكم زرع الخوف وليس الاحترام، لأن الاحترام يغري بالتجاوز”،
القاعدة التي طبقها صدام حسين حرفياً.
من الخوف شبعنا حتى فاض عن مساحة الصحراء وصرنا لا نخاف.
أو تتم شرشحته من الاصدقاء والزملاء وأرباب العمل والعمال،
وتُفتح كل السجلات الخاصة من فرشة الاسنان، الى آخر دشداشة اشتراها بالتقسيط،
ويتحول كل شيء فيه في الماضي الى لعنة من الإسم الى السكن،
ومن الأغاني التي أحبها الى آخر بولة على حائط بعد منتصف الليل،
ومن رسائل غرامه ايام الشباب الى نوع البايسكل الأخير،
وتُستخرج، على عجل، في تحليل نفسي مرتجل، كل أنواع العقد والامراض المتخيلة،
حتى يسقط يوما، في خطاب جماهيري، برصاصة تائهة ، ويتهدل كجورب عتيق.
أما اذا جاء في انتخابات حرة ونزيهة، وهذا شبه مستحيل، من ثكنة،
وانتقل من جنرال الى رئيس،
فسيتولى الجنرالات القدامى والجنرالات الدمج الجدد الذين لا يفرقون بين رقبة الناقة وحرف الالف، ولا بين ساحة حرب وبين السرير،
بفتح تاريخه من مرحلة الاسنان اللبنية،
الى علامات الاستفهام حوله وهو في مرحلة التخصيب في الرحم،
وعلامة الاستفهام هذه لا تزول بكل أنواع المساحيق والحقائق،
حتى لو تمكن الرجل من اعادة غرناطة من جديد.
واذا لم يتحصن خلف ثلاث فرق مدرعة، وقوات خاصة،
وعشرات الدبابات المرافقة له في كل مكان، وعشيرة مسلحة، فستتم الاطاحة به يوماً بانقلاب مسلح بكل أنواع السلاح،
من الطائرات التي تحوّل قصره الى غبار،
الى بساطيل جنرالات وحدائقيي القصر وحتى عمال الصرف الصحي.
قد تقع معجزة ويتم انتخابه من الوسط الثقافي من الشعراء أو النقاد أو الروائيين،
او من راقصي الفرقة القومية للفنون الشعبية القدماء، وفي هذه الحالة سيتحول الرئيس الى سالوفة وفرجة بين الطوائف ونكات عن الزعيم الراقص، خاصة وانه يأتي بعد رئيسين للجمهورية وللوزراء:
واحد منعزل قانص يتدرب على قواعد البروتوكول واللغة العربية ويراقب حركة النمل في حدائق القصر، أو مراقبة غيوم ايلول البيض،
ودوران الارض وحركة الارض،
ويحتاج بين ساعة وأخرى لتذكيره بأنه رئيس لشعب، وربما ينسى كأحد ملوك اسبانيا وهو يحتضر عندما قال:
” ما إسم هذا البلد الذي كنت ملكاً فيه؟” وبين رئيس وزراء شواربه تربط الثور ألغى الدولة وفرض سلطة العشيرة واعاد حكم القرية والاقارب والسلالة.
عندها يصبح الزعيم المثقف القادم من مناخ ثقافي ويتحدث عن الادارة الحديثة والمعرفة والحداثة، والادب والفن والتنمية والمستقبل،
الى اضحوكة وهو يسير وحيداً برفقة عدد من الحراس، بلا حرس جمهوري ولا مخابرات مندسة بين الناس،
وليس من المستبعد أن يقوم زبالو القصر بانقلاب أبيض، يكتفي بعزل الزعيم ” الناعم” وكنسه من القصر،
وحمله الى المطار بسيارة لنقل النفايات ثم الى المنفى كما حدث مع الرئيس عبد الرحمن عارف في انقلاب عام 1968 وقد رافقه المرحوم صلاح عمر العلي الى المطار وهو من انقلابيي ذلك الفجر المشؤوم وقد شرح لي ذلك بالتفصيل يوم كنت أعمل في جريدته المعارضة: “الوفاق” في تسعينات القرن الماضي والرئيس عارف المذعور يسأل: من أنتم؟.
السؤال التاريخي الذي كرره زعماء عرب في لحظات عاصفة كزين العابدين والقذافي والأسد ومبارك لأن هؤلاء لا يعرفون القاع العميق للشعوب ويعتمدون على تقارير الأمن والاستخبارات المكيفة لإرضاء الحاكم.
من بين الاحتمالات أن يأتي المنقذ من المنفى،
كخبير في الادارة والاقتصاد والادب والفلسفة وفي علم التحديث الاداري،
وخبير في ” الحداثة” كأفق ثقافي، أو مثقف عضوي حامل لمشروع حداثي،
ويفرق جيدا بين الحداثة المعرفية والثقافية وبين التحديث الاداري والمؤسساتي، ونحن نخلط بين الاثنين،
وفي هذه الحالة عليه مواجهة باعة الشلغم، وسردياتهم عن الايام الخوالي يوم كان يطوف حول العربات، مفلساً، كطوفان بوذي هندي تائه بين حجاج ايرانيين يهتفون بحياة المنقذ الغائب،
بعد ان امتلأت الأرض جوراً وظلماً وسرقات وضرب أصابع وهز الخصور وايقاع الطنبور ، ودنابك وويسكيات في قصور الزعماء.
عليه مواجهة القابلة وهي تروي للجميع في القنوات وفي الشوارع وجلسات الحبايب كيف انها عندما أخرجته من الرحم، شعرت بولادة شيطان أو قرد،
من غير مرويات أصحاب المقاهي والحلاقين والمدلكجية وباعة عربات النفط،
حتى يتحول كل شيء فيه الى عورة، من طريقة المشي الى طريقة الحكي،
ويتحول النقاش العام حوله من مشروعه الحداثي المعلن الذي يعرضه للرأي العام،
الى النقاش حول مشروعه الغرامي المحبط، وينصرف السؤال عن ماذا سيكون عليه البلد بعد عشر سنوات،
الى السؤال عن عدد شعرات لحيته ونوع الحذاء والتسريحة وكم سعر غليونه.
اذا نجا الرجل من رصاصة أو انقلاب او مرض داهم لا يعرف له الاطباء سبباً،
أو علاجاً، فليس من المستبعد أن يغادر المطار متنكراً بنقاب حريمي،
أو في صندوق بضائع بمساعدة أصدقاء كتبوا فوقه:
” مادة زجاجية سريعة الكسر” لكي لا يقترب منه أحد.
أما اذا جاءت سيدة للحكم في بلد كالعراق، ما زالت صور الرؤساء والوزراء وزعماء الاحزاب فيه ترعب الصغار والكبار، تملأ المخيلة بكل الكوابيس،
قادمة من بيئة مثقفة، وتحمل شهادة في الفلسفة والادارة والسياسة
في بلد لا يفرق قادته اليوم بين جامعة كامبيرج وبين شارع مريدي للشهادات المزورة،
ومشهود لها بالنزاهة والحكمة والعقل القيادي، فسيكون عليها مواجهة عشرات القوى ومنها:
أولا: عليها أن تحسم التفسير الحرفي للحديث النبوي، اذا كان صحيحاً أو مسنداًُ القائل:
” لا يفلح قوم ولّوا أمرهم إمرأة”
على أساس أنهم افلحوا مع هؤلاء الحرامية مع انني أعيش منذ سنوات تحت سلطة دولة تحكمها النساء من السلطة العليا وحتى الادارات المحلية وصلت أول دولة رفاهية في العالم لأن الرقة والجمال والشفافية لا تتناقض مع الحزم والحسم وقوة الشخصية. بل الحسم نوع من الجمال والاناقة والهيبة والرهافة والصحة النفسية والصدق مع الذات والاخر.
وثانيا: ان تنهي الجدل، او الدجل، حول ان وجه المرأة عورة، وهو جدل لم يطرح عن وجوه لصوص المال العام.
وثالثا: ان تخوض صراعاً منهكاً مع مؤسسة الحكم الخشنة، لكي تثبت هيبتها وسلطتها حسب القانون،
قبل أن يتم اسقاطها في مظاهرات صاخبة بحجة ان الدورة الشهرية،
تتزامن مع الدورة البرلمانية الشهرية،
وان الأنثى حقل اغراء أكثر من كونها حقل سياسة، خاصة اذا كانت شابة يثير مرورها بين الوزراء الغواية وينتج عنه الشبق الطارئ والاجهاد والأرق،
في حين أن كل طاقتهم الجسدية متحفزة ومنتصبة وجاهزة للعب الادوار التاريخية كنخبة ملهمة وخبيرة في كسر الاقفال وكل أنواع السرقة،
من سرقة الدخل القومي الى سرقة نعل الجوامع وحتى حفاظات الاطفال المستعملة والكحل من العيون.
أما إذا أطيح به في انقلاب وصلبوه بالمسامير وحاول أن يصعد للسماء، فلا تدعوه يصعد، لا تدعوه، ولو بضربه بالأحذية لأنه كلب إبن كلب أراد يحكم بلداً كل فرد فيه مصدق انه من سلالة آلهة وشعاره ” شلون إطّكه وخاله حذاه؟” كما لو ان خاله نابليون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى