كتاب وشعراء

المرأة والحب عند ابن حزم الأندلسي في كتاب طوق الحمامة في الألفة والألّاف….بقلم ربا رباعي

يُعدّ ابن حزم الأندلسي (384–456هـ / 994–1064م) أحد أعلام الفكر والأدب في الأندلس، جمع بين الفقه والفلسفة والأدب، وامتاز بعقله التحليلي وروحه الرقيقة. ومن بين مؤلفاته الكثيرة، يبرز كتابه “طوق الحمامة” بوصفه أروع ما كتب عن الحب الإنساني في الأدب العربي، حيث مزج فيه بين التحليل النفسي، والتأمل الفلسفي، والتجربة الذاتية.
هذا الكتاب ليس مجرد سردٍ لعلاقات عاطفية، بل هو دراسة عميقة للإنسان في أصفى حالاته الوجدانية، وقد تناول فيه ابن حزم المرأة والحب بعمقٍ واحترامٍ وإنسانية نادرة في عصره.

أولاً: مفهوم الحب عند ابن حزم

يرى ابن حزم أن الحب غريزة إنسانية نبيلة، لا تُعدّ خطيئة ولا ضعفًا، بل هي ميلٌ طبيعيّ فُطر عليه الإنسان، يجمع بين الروح والجسد. وهو يعرّفه في أجمل تعريفاته بقوله:

> «الحب اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع» (طوق الحمامة، باب ماهية الحب).

بهذا التعريف يجعل ابن حزم الحب رابطة روحية عميقة، تتجاوز الجسد إلى عالم الأرواح، وترتقي بالإنسان إلى مقام الصفاء والكمال.
ويقول أيضًا في وصف أثر الحب:

> «وأوله هزل وآخره جد، دقّت معانيه لجلالتها أن توصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة.»

إذن فالحب عند ابن حزم تجربة وجدانية لا تُدرَك بالعقل وحده، وإنما تُعاش وتُذاق، وهو شعور يعلّم الإنسان الرحمة والوفاء والصدق.

ثانيًا: المرأة في فكر ابن حزم

يُعدّ ابن حزم من أكثر من أنصف المرأة في الفكر الإسلامي الوسيط. فقد نظر إليها نظرة إنسانية متوازنة، بعيدة عن دونية بعض المفكرين في عصره، مؤكدًا أن المرأة والرجل يتساويان في القدرة على الحب والوفاء.

يقول في باب الوفاء:

> «ومن أحبّ حبًّا صادقًا لم ينسَ محبوبه ما دام حيًّا، والنساء في هذا الباب أصدق من الرجال وأوفى، لما في طبعهن من اللين والرقة.

ويُظهر هذا القول احترام ابن حزم للمرأة، وإيمانه بقدرتها على الإخلاص العاطفي. فهو يرى أن المرأة ليست موضوعًا للحب فحسب، بل فاعلة فيه ومبدعة، تشارك الرجل في صفاء الوجدان ورهافة الحس.

كما أنه يربط بين الفضيلة والأنوثة، معتبرًا أن الجمال الحقيقي ليس في الشكل، بل في الروح والعقل، فيقول:

> «فليس بمنكر أن تُحب الصورة الجميلة، ولكن أعجبُ لمن لا يُحب المعاني الكريمة.»

ثالثًا: خصائص الحب عند ابن حزم

في طوق الحمامة يقسّم ابن حزم الحب إلى أنواع وأحوال، ويصف مظاهره بدقة عالم نفس، ومن هذه الخصائص:

1. علامات الحب

يقول:

> «أول علامات الحب إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهي المنزلة الأولى من منازل المحبة.»

فالعين عنده هي مفتاح الروح، وبها يبدأ الانجذاب. ويضيف:

> «ومن علاماته سرعة التقلب والرضا والغضب، وتبدّل اللون، واضطراب الحركات.»

2. أنواع الحب

يصنف ابن حزم الحب إلى أنواعه بحسب الدافع والمقام:

حب العفة: وهو الحب الروحي الخالص، الذي لا يطلب مقابلاً جسديًا.

حب الصداقة: وهو مودة قائمة على الصفاء العقلي والتآلف النفسي.

حب المفاجأة: الذي يولد فجأة من نظرة واحدة أو موقف.

حب الخبر والسماع: عندما يُحب المرء شخصًا لم يره، بل سمع بصفاته.

ويقول في باب من أحب بالوصف:

> «وقد أحببتُ من لم أرَ قط، وسمعت بصفاتها فهام القلب بها، حتى إذا رأيتها وجدت الصفة أصدق من الصورة.»

3. الوفاء والصبر

يُعلي ابن حزم من شأن الوفاء في الحب، ويرى أنه امتحان الصادقين، فيقول:

> «الوفاء في الحب من شيم الكرام، ومن عدم الوفاء لم يعرف الحب قط.»

ويؤكد أن الفراق لا يقتل الحب الصادق، بل يزيده نقاءً:

> «وأصدق الحب ما ازداد على طول العهد وثبات الود.»

رابعًا: العلاقة بين الحب والدين

رغم أن طوق الحمامة كتاب في الحب، إلا أن ابن حزم لم يفصل بين العاطفة والدين، بل جعل الحب فضيلة إذا بقي في دائرة العفة والنية الصافية.
يقول في باب من أحب في الحرام ثم تعفف:

> «قد يُبتلى المرء بالمحبة ولا يملك ردّها، فإن تعفّف وصبر، كان مأجورًا عند الله.»

ومن هذا المنطلق يرى ابن حزم أن الحب ليس إثمًا، وإنما الإثم في تجاوز حدوده الشرعية. فالحب عنده طهرٌ إنساني يرقى بالنفس، لا شهوة تفسدها.

خامسًا: البعد الأدبي والنفسي في “طوق الحمامة”

يتّسم الكتاب بلغةٍ شاعريةٍ رفيعة، تجمع بين الصدق الوجداني والعمق الفلسفي. فقد استطاع ابن حزم أن يصور العواطف الإنسانية في أرقى صورها، مستخدمًا أسلوبًا يجمع بين التحليل النفسي والسرد القصصي.

كما يُعدّ الكتاب من أوائل الدراسات النفسية في الحب في التراث الإنساني، إذ درس فيه أسباب الحب، وأعراضه، ونتائجه، وآفاته، بل حتى علامات الكذب والصدق فيه، مما يجعله سابقًا لعصره في الفهم النفسي والاجتماعي للعاطفة.

خاتمة

إنّ صورة المرأة والحب عند ابن حزم في طوق الحمامة تمثل مزيجًا فريدًا من العقل والعاطفة، والدين والأدب.
فالحب عنده قيمة إنسانية سامية، والمرأة شريك روحي في هذا الوجدان، وليست تابعًا أو موضوعًا للشهوة.
وبذلك يكون ابن حزم قد قدّم رؤية إنسانية راقية للحب في إطارٍ من الطهر والفضيلة، وجعل من كتابه “طوق الحمامة” شاهدًا خالدًا على رهافة الحس الأندلسي وعمق التجربة الإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى