رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : الكراهية كآيديولوجيا

عشت نصف حياتي هنا في النرويج، بل ولادتي الحقيقية هنا والحياة السابقة تمارين على جهنم، في دولة دخلت الحداثة وتعبر الى ما بعد الحداثة ولم أسمع يوماً كلمة” كراهية” بالمطلق بل يقولون” لا نحب هذا” لا نرغب فيه” أو” لا أقبل هذا”.
إن أشد ما يثير فيّ الغضب والإشمئزاز عندما يحلف ويقسم العراقي بـــــــــ” وداعة عمري” لأنه حسب ذلك القرف حياة تستحق الحلف بها.
لم أسمع بكلمة كراهية وحتى نسيتها إلا من أبناء جلدتنا في الوطن أو في خارجه كما لو انها عقيدة أو مفخرة أو آيديولوجيا،
ومن غير المستغرب انها منتشرة حتى في صفوف ما يسمى عندنا بــــــــــ” المثقفين” مع ان مفهوم المثقف أبعد من مفهوم المتعلم ولو وضع عشرات المجلدات مما يعني أن هؤلاء عاجزون عن الاستبصار والتحديق في أعماقهم إن لم تكن أعماقاً مسطحة يمكن قياسها بعود ثقاب.
عاشت أجيال على أن الكراهية جزء من العقيدة ومن الايديولوجيا ومن الموقف الثوري ومن الشجاعة وهؤلاء يقولونها بزهو وتلقائية كما لو انها نوع من الزهور ، لكنك تتعلم إن الغاطس في وحل يعتقد المستنقعات حدائق، ومن هو غارق في الدخان لا يرى غير الظلام ، ومن ولد في بيئة الاحتراب والعقل الشقي المحارب يعتقد ان الجلافة ثقافة.
وبعد فوات الأوان صاروا كالكلاب الهرمة عاجزة عن تعلم عادة جديدة. ببغاء هرم مطلق السراح يردد الكلمات القديمة. انتهت النظرية المفسرة كل شيء وماتت السرديات الكبرى عن التاريخ والمستقبل والصراع لكنها تركت ببغاوات لا تمتلك غير المخالب وتعاني من عطب معرفي وعطب لغوي لانها تربت في قفص.
ليس فشل مشروع فقط بل فشل حياة كاملة حوّلت هؤلاء الى مخلوقات محطمة يائسة فارغة لا تملك غير ألبوم الصور القديم. عندما حاولت هذه المخلوقات تجديد مسامير تابوتها الصدئ ولجأت الى الأدب، نقلت الى الأدب لغة السياسة السطحية المصممة على الكذب ولغة الشوارع الخلفية لأن اللغة السياسية في الأصل لطش ولصق ولم تتجذر في الوجدان في حين لغة الحانات والدرابين عميقة ومتجذرة. كما خسرت السياسة ، خسرت الأدب.
عندما تسمع كلمة” الكراهية” من مكان نظيف تشم رائحة دم جاف كما يحدث لو دخلت في مسلخ للحيوانات لكنها تبدو عادية لهؤلاء الذين لا يعرفون الخراب الداخلي خلفها في أعماقهم. كلمة أكره تقال لأتفه الأسباب بل وبلا أسباب حقيقية.
وهذه الكلمة لم أسمعها إلا نادرا في العراق من الناس الأميين والبسطاء أيضاً الذين يجدونها ثقيلة ومرهقة ومتطرفة. قد يكون هو السبب الذي جعل إميل سيوران يقول:
“كان لدي الانطباع بالاصالة ورعشة الوجود عند الاتصال بالانسان الأمي،
رعاة جبال الكاربات في رومانيا، أحدثوا فيّ إنطباعاً أكبر بكثير من الاساتذة الألمان الماكرين ومن المثقفين الباريسيين المراوغين”.
هذا ما يقوله المفكر والروائي الروماني الفرنسي اللغة إميل سيوران،
الذي لو سألته ماذا تفعل من الصباح حتى المساء؟سيقول لك:
“أروض نفسي”.
ماذا يمكن أن يتعلم سيوران من الرعاة؟ أجزم أنه تعلم الوضوح والنبالة واللغة الطبيعية الأولى لأنه يقول الرعاة أفضل من المراوغة والمشاكسة عند المثقفين.
سيوران عرف في حياته الكثير من الأدباء لكن النبلاء يضيعون في الضجة والازدحام، لماذا البلادة تنتشر أكثر من الحكمة؟ الكراهية تعلو فوق المحبة؟
البعض يصيبه الواقع بالدوار، لكن سيوران يصيبه الواقع بالربو ــ يختنق من الواقع، نحن نخاف ونتألم من الخيبة،
هو تشعره الخيبة بالإحساس بما هو حقيقي، كيف تعرف جمال الأشياء خارج أضدادها؟
على الانسان في مرحلة من حياته أن يغير إسمه ويلجأ الى مكان مجهول بل حياة رضية، حياة منهك ـــ يقول سيوران. لكن الحنين الى المكان القديم يخلق فضائل وهمية وتحب أن تسمع اللهجة المحلية والطعام المحلي والطرائف المحلية فتقع في الخيبة . إن الناس ليس كما تركتهم وانت ضحية ذاكرة تخلق لك صورا لم تعد موجودة كعملة أصحاب الكهف.
قد تحتفظ بذكريات عن أطفال صغار أبرياء تركتهم وتشعر بالحنين والشوق بل الخوف والقلق على مصيرهم لكنك تكتشف أن بعضهم تحول الى نصاب محترف يخلق لك سيناريو محكم لكي يحصل على مايريد من مكاسب ولا يعرف انه هدم جزءاً من ذاكرتك وترك فجوة صدئة موخزة لانهيار صورة والغى من الأساس مشاعر الحنين.
لكنك تتعلم ان الذاكرة فخ وأن الخيول ليست كلها أصيلة ، فتردد الأغنية البدوية: ” لا تشدوا سروجكم على غير الأصيل ـــــــ فمقعد السرج على ظهر الناقص يميل”.
الصقر في مرحلة من حياته يكسر منقاره بحجرة ويجدده وينتف ريشه القديم ويولد من رحمه ثانية. كيف يفكر الصقر الجديد وهل غير ذاكرته؟
كم نحن بحاجة لولادة ثانية وعاشرة وكسر مناقيرنا الصدئة الداخلية.
الحياة ألغاز وخاصة قاع الانسان . أنت في كل يوم، يقول سيوران، تكتشف شيئاً جديداً في نفسك ثم يأتي أحمق لكي يقول لك:
” أعرفك جيداً أكثر مما تعرف نفسك”.
بل يحدثك كيف تعيش وهو لا يعرف من أنت وكيف تشعر وانت نفسك لا تعرف ماذا تشعر أحياناً وكيف تتعامل مع المحيطين بك وهو لا يعرفهم والخ. الأحمق حسب ميلان كوندير يعرف كل شيء عن أي شيء.
تكتشف ان هذه الخفة العقلية في هذا الكائن انه يتحدث مع نفسه في المرآة وهو حطام بشري لا يعرف من هو،
وهو واثق ومبتهج وهو بلا هوية ذاتية بل مجموعة هويات متناقضة وتجمع شخصيات وتصنيف معياري جاهز ونمطي لا يستند على عقل ولا منطق ولا تجربة ولا تفكير حقيقي بل تخيلات وهلاوس.
البعض يصيبه الواقع بالدوار، لكنه يصيب البعض بالغضب. نحن نخاف ونتألم من الخيبة لكن الخيبة تعيد الإحساس بما هو حقيقي، الخيبة معرفة جديدة على ضوء تجربة. كيف تعرف جمال الأشياء خارج أضدادها؟
لقد رأى متسولين ومتشردين كملامح قديسين، يقول سيوران، اخترق الشكل الخارجي ونفذ الى الأعماق الخفية.
الحياة ألغاز وأكثرها هو الانسان وهناك مساحات رمادية فينا لا نعرفها نحن إلا بعد تجربة أو حادث أو مصادفة . الانسان قاع عميق وطبقات وليس سطحاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى