حمزه الحسن يكتب : عن الزمن الجميل، أيضاً

عندما يتحدث البعض عن الحنين الى ” الزمن الجميل” سواء كان سياسياً أم مواطناً، يختزل تاريخ العراق الحديث بصور انتقائية تتعلق بحياته الشخصية هو وليس بالتاريخ العام.
تتحول نزهة في حديقة الى معجزة وجلسة أصدقاء سعيدة في مكان الى حفل وغالبا ما تنشر صورة ” الزمن الجميل” عن منزل مرفه وحديقة،
عن عائلة سعيدة تقف الى جوار سيارة بل أحيانا صورة شارع نظيف او مصباح كهربائي ، أو شرطي مرور أو ضابطة عسكرية، أو طلاب في رحلة مدرسية أو طالبات في جامعة والخ،
ويجري وصف هذه الصور كخوارق ومعجزات: لكن هل هذا هو فعلا الزمن الجميل؟.
بالمقابل لا نرى صور الاحياء الشعبية التي تعيش على حافات المدن في ذلك الزمن لا من مدينة الثورة ولا من الفضيلية ولا من معامل الطابوق وحي الدواسر ومدن الصفيح ولا من ضواحي العمارة او الناصرية وغيرها؟
كان سكان ” خلف السدة ” سدة ناظم باشا يسكنون فوق مجاري الصرف الصحي مع حيواناتهم حتى زمن عبد الكريم قاسم الذي أسس لهم مدينة الثورة والفضيلية وتحولت تلك المستنقعات الى ملعب الشعب ومدينة الالعاب ومستشفى الجملة العصبية وكلية الشرطة.
يوم حدث انقلاب الثامن شباط 1963 خرج فقراء ” خلف السدة” الذي هربوا من جور الاقطاع وبنوا مستوطنات الجرذان العشوائية، وطالبوا بالسلاح ضد الانقلابيين لكن الزعيم رفض لكي لا تتحول الى حرب أهلية.
تختفي من صور” الزمن الجميل” الفوارق الطبقية حتى في الزمن الملكي حيث كان الناس يصنفون الى أبناء الشيوخ وأبناء العامة، كما اليوم أبناء السلالة المقدسة وأبناء العامة، حيث كان لا يحق للفلاح ليس فقط امتلاك أرضه بل لا يحق له المرور من قصر الشيخ وهو راكب على حماره أو يتعرض للجلد.
كان أولاد الصرايف لا يحق لهم حتى في الصف المدرسي الجلوس مع أولاد الشيوخ وحتى الصداقة شبه مستحيلة مما خلق نزعة تذمر داخلية وعقدة الشعور بالدونية في نفوس اجيال من الأطفال الذين كبروا على مشاعر الاذلال والتمييز الطبقي والعائلي والمهني والمالي وكلها مصنفة كعنصرية في القوانين وهذه التراتبية مستمرة حتى اليوم في دورة انقلاب الطبقات وصعود شرائح وهبوط أخرى لكن العقل العنصري الطبقي لم يتغير بل يتموه خلف عقائد ومبادئ وشعارات زائفة.
حتى في المنافي قبل الاحتلال كانت اللغة المستعملة بين ما يسمى بالمثقفين في الخلافات السياسية لغة المعارات الصبيانية والحساسيات الشخصية الاخلاقية وهتك الاعراض بعد أن حملوا معهم معايير عالم القمع والتخلف الى دول مختلفة كما لو وضعت خنزيراً في حديقة فسيحولها الى مستنقع. استدعاء المكان القديم وتلبيسه على مكان جديد ونظيف.
السياسي العراقي عندما يتحدث عن الزمن الجميل لا يذكر هذه الصور لانه عاش في نوع من” الرفاهية” حسب معايير ذلك الزمان حيث كان سجنه يقود الى حملة تضامن وأسرته تتلقى راتباً سرياً من الحزب وربما حملة تضامن عالمية معه.
يوم جمعتنا مع المناضل الشهيد صفاء الحافظ زنزانة واحدة في 20 مايس 1979 في مسلخ مديرية الأمن العام زمن السفاح فاضل البراك ــــــــــــ ولم نكن طرفاً في صراع ومع حشود من المستقلين والمثقفين ـــــــ وكان يجلس الى جواره الدكتور الشهيد صباح الدرة ، قال لنا المرحوم الحافظ إنه سيخرج بعد أن تدخل له رئيس مجلس السلم العالمي والمرحوم عضو فيه ثم اختطف في شارع الرشيد في 4 شباط 1980 وأعدم وظل ذلك الاختطاف لغزاً لان الشهيد الحافظ كان يخطط للهروب من العراق وكلام عن وشاية رفاق.
حتى عندما يهرب السياسي العراقي الى المنفى يجد القومي مكاناً وراتباً في القاهرة ــــــــــــ كان راتب صدام في القاهرة كلاجئ 20 ديناراً من المخابرات المصرية عام 1960 كما كشفت الوثائق ــــــــــــ واستقبالاً في موسكو والدول الاشتراكية، وعندما يتحدث عن الزمن الجميل يتحدث عن زمنه هو ، عن المؤتمرات الحزبية والشقق الفارهة والثلج والوفودكا والنساء البيض والحياة الآمنة كما في مذكرات الشاعر حسب الشيخ جعفر في” رماد الدرويش” وفي” نينا بتروفنا: من أيقظ الحسناء النائمة؟”.
في حين كان شعراء وكتاب وأدباء العراق مطاردين أو في السجون أو في المنافي أو لاجئين في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كالشعراء سعدي يوسف ومظفر النواب وهاشم شفيق وغيرهم الكثير ثم انتقلوا الى مدن منفى جديدة في حين توزع اخرون في موسكو كالروائي غائب طعمة فورمان والشاعر عبد الوهاب البياتي في مدن عدة والشاعر بلند الحيدري في لندن والجواهري بين براغ ودمشق وهادي العلوي في دمشق والقائمة طويلة. في حين كان كاتب هذه السطور يعبر ثلاثة حدود دولية مشياً على الأقدام من العراق وايران والباكستان بحثاً عن مكان هادئ للاقامة وغرفة نظيفة وحياة آمنة وسيرة كتبت بالأقدام قبل الورق.
لكن تختفي من زمن حنين السياسي العراقي الى” الزمن الجميل” الأحياء الشعبية والشوارع الغارقة بالوحل والنفايات وفي زمن الدكتاتورية تختفي صور مقابر قتلى الحروب والسجون العلنية والسرية ولا ميادين رمي بسماية حيث المكان المفضل للاعدامات الجماعية وقد تحولت بسماية اليوم الى مدينة حديثة مع ان ارضها مروية بالدم.
تُختزل كل هذه الفواجع والكوارث في مذكرات ويوميات السياسي العراقي في انه استطاع يوما في غفلة من الرقيب كتابة مقالة عن الحرية والديمقراطية مع ان جميع نظم الحكم في العراق هي الأكثر جعيراً عن الحرية والديمقراطية والعدالة والانسان أثمن رأسمال وما أن يدخل السجن حتى يصبح أرخص من رأس البصل. هذه خاصية العقل الاختزالي.
لا تظهر في ذلك الزمن الجميل قبل وخلال النظام السابق، صور باعة الارصفة من النساء والرجال ولا صور اكواخ الاهوار ولا عمال الافران ومعامل الطابوق في الصيف المهلك، ولا أنين الأمهات وأرامل الحروب والمنافي والمعتقلات ولا صور اليتامي والجرحى.
كما ان هؤلاء خارج الزمن الجميل، فهم خارج صوره أيضا: أي نفي من الحياة ومن الصورة ومن التاريخ.
تعطي هذه الصور المنتقاة عن الزمن الجميل التي تنشر لدوافع واسباب مختلفة بعضها عفوي والبعض الاخر قصدي، إنطباعاً أن العراق اليوم بلا منزل فيه حديقة ولا عائلة تمتلك سيارة ولا طلاب يذهبون الى الجامعة ولا سفرات مدرسية وبلا رجال يرتدون ملابس حديثة، حتى نفايات الماضي تلوح في الصور كانها حدائق وتظهر حافلات نقل الركاب كانها مراكب فضائية ورياض اطفال كفردوس طفولي، بل حتى طيور الزمن الجميل تختلف عن طيور اليوم،
وتختفي ثكنات الجيش التي كانت طريقة لعسكرة الشباب على الطريقة النازية ومن يدخل للجيش وكتب في دفتر خدمته العسكرية 18 شهراً لا يتم تسريحه حتى بعد 15 سنة وحربين مثل كاتب هذه السطور وأجيال من الشباب بترت حياتهم في معسكرات غولاغ اعتقال لفرض نمط حياة صارم،
وحتى الاطفال والشباب والنساء تم حصرهم في منظمات هي التطبيق الحرفي للمنظمات النازية في خلق ” المجتمع البديل” الآلي .
الأغرب تظهر بعض الصور لجنود وضباط بقيافة نظامية كما لو انهم في رحلة سياحية لكن ماذا خلف هذه الصورة؟
كيف دفن هؤلاء أحياءً في خنادق حرب الثماني سنوات وحرب الجبال والكويت؟ وماذا حل بصور ال 60 الف جندي الذين دفنتهم الجرافات الامريكية أحياءً بعد وقف اطلاق النار في حرب الكويت من خلال جرافات خاصة تنفث الرمال من مبعدة نصف كيلم باعتراف صحف وكتاب وضباط أمريكان وفرنسيين وبريطانيين وايطاليين وثبتنا هذه الشهادات يوماً وفي رواية” تاريخ مضاد”؟
تظهر كليات الزمن الجميل كواحة للعلم والمعرفة مع ان التعليم الجامعي مغلق لغير المنتمين للحزب الحاكم، وتحولت الجامعات الى مراكز أمنية،
وأساتذة الجامعات القدماء المستقلين او اليساريين تحت مراقبة طلاب الاتحاد الوطني واهاناتهم ومحاصرتهم بل واعتقال بعضهم واعدامه او هروبه، وكمية الاذلال الواقعة عليهم .
مرة التقيت بالدكتور عز الدين رسول في كلية الآداب عام 1985 وهو شخصية ادبية رفيعة ومهذب للغاية ورجل كبير السن ومؤلف كتب عدة ومترجم ويتقن 5 لغات ومن مؤسسي المؤتمر الوطني الكردستاني ورئيس اتحاد الادباء الاكراد،
ولم تمر دقائق حتى جلس خلفنا طلاب همس لي الدكتور إن هؤلاء تم ارسالهم للتنصت وشرح كمية الاساءات التي لا تصدق وقررنا انهاء الجلسة على اللقاء في مقهى” البرلمان” ملتقى الادباء المعروف في شارع الرشيد
وقصته ليست الوحيدة بل مأساة جيل رائع من الاساتذة الكبار علماً وأخلاقاً.
لا يظهر هؤلاء في الزمن الجميل ومن بينهم الدكتور طالب البغدادي مؤرخ ومفكر واقتصادي واستاذ كلية الادارة والاقتصاد في جامعة بغداد وكيف عذب وسجن وطورد وأهين بلا اي سبب سياسي سوى وجهة نظر علمية في الاقتصاد حتى انه اعتقل من قاعة الدرس وكتابه” حكايتي مع صدام” يروي الكثير مما لا يظهر في صور الزمن الجميل.
لا تظهر الاقبية، لا تظهر بصقة برزان التكريتي على وجه الدكتور البغدادي ولا غيره ألمع مفكري تلك الفترة المشؤومة .هذه الصور سواء كانت تنشر لهذا السبب او ذاك لكنها تعكس سردية مزيفة تماما وتنقل صورة غير حقيقية عن زمن صعب لكي لا نقول أكثر أوصلنا الى ما نحن اليه.
التاريخ الحقيقي هو” التاريخ من أسفل history from below الذي يروي التاريخ من خارج السرديات المزيفة الملقنة وخاصة سرديات السياسيين المختزلة التي تعكس حياتهم الشخصية خارج البؤس والشقاء والجحيم العام.
عامة الناس لهم رواية مختلفة عن روايات الوثائق والمؤرخين والسياسيين، لان للهامشيين والمقصيين ومن يعيشون على حافات الفرح والسلطة والمدن والقرار كعمال التنظيف والاطباء الخفر وربات البيوت ومذكرات الجنود وباعة الارصفة ونزلاء المصحات النفسية وغيرهم ممن لا صور ولا حياة حقيقية سرديات نقيضة تماماً.
كيف الذهاب للمستقبل بتاريخ مزور وذاكرة مشوهة؟ في كتابه «تاريخ الشعب في الولايات المتحدة» كتب هوارد زين:
«إن تاريخ أي بلد قُدِم على أنه تاريخ عائلة، يُخفي تضاربًا شرسًا في المصالح (ينفجر أحيانًا، وغالبًا ما يتم قمعه) بين الفاتحين والغزاة، السادة والعبيد، الرأسماليين والعمال، المسيطرون والمهيمنون على العرق والجنس، وفي عالم الصراع هذا عالم من الضحايا والجلادين، فإن مهمة التفكير هي كما اقترح ألبير كامو ألا تكون إلى جانب الجلادين».
ليست أناقة السجون وفرص القراءة مثلاً في الزمن الجميل صوراً تستدعي الحنين لأن صور السجناء ونظافة الملابس كما في الصور تخفي خلفها الكوارث والصرايف وأكواخ الانين والمرض والذل وخلفها تضيء نار آبار النفط.
مهمة شاقة أمس واليوم في دولنا عندما زُرع في الانسان صورة الجلاد وقوانينه وشروطه وذاكرته عبر زمن طويل وصار رقيباً على مشاعره وأقواله ويمارس المازوخية جلد الذات بتمتع وتظهره الصور ضاحكاً مبتسماً في حين صورته الداخلية تنزف دماً ويُرى واقفاً كنخلة لكن روحه تزحف راكعة لأن الركوع ليس وضعية جسدية. من يرى الصورة الداخلية؟
الحنين للماضي يصبح عدواناً على الضحايا عندما تستعير الضحية ذاكرة جلادها وتروي العذاب العام على انه فرصة حياة لها وحدها ، والأهم من كل ذلك ان ذلك الماضي لم يكن يوماً ماضياً بل هو الماضي المستمر ونحن اليوم في هذا المنعطف الخطير المنذر بغيوم سوداء واحتمالات قاسية نتاج ذلك الزمن الجميل.
الصورة الحقيقية لذلك” الزمن الجميل” موجودة بالكامل في هذا” الزمن القبيح” الذي يختزن هو الآخر أقبح تاريخ بشري، كما يولد الصل من الأفعى.، وبيينا الأيام ، إنما الأيام مثل السحاب.







