رؤي ومقالات

صلاح البلك يكتب :جواتابي ..إطلالة “بوني” الأخيرة

اعتاد السيد بوني مجالسة نفسه في مواجهة سلم صخرة “جواتابي” شديدة الارتفاع ممدداً قدميه على كتلة خشبية وضعت له خصيصا ولما لا وهو عمدة المدينة الخلابة والتي لا تكاد تنام.. ليلها متصل بنهارها والسياح لا ينقطعون عن زيارة المكان وصعود سلالمه التي يتجاوز عددها السبعمائة وصولاً إلى القمة حيث الإطلالة الأجمل في العالم .
يحتسي بوني أكواب الجعة عند قاعدة الصخرة في موضع يسمح له بمتابعة كل شيء ..حركات السياح والباعة والسكارى والحروف التي لم تكتمل على الصخرة منذ نزاع قريته التي صارت مدينة وقرية “إل بينيون ” على ملكيتها ليطلق عليها «إل بينيون دي غواتابي» ترضية لكلا الطرفين .
كل شيء هنا قابل للاختلاف بما في ذلك أحقية بوني بالعمودية والتي حاول تثبيتها بكل الوسائل ..يتوقف رجل عجوز أمامه : أفسدت كل شيء ..يكتفي بهز رأسه ولا يعيره انتباها فكل شيء كما يراه هو على أحسن حال .
أباح كل شيء وتغاضى عن كل ما يمكن أن يحاسب عليه حتى صارت المنطقة شبيهة ب”مديين” عاصمة المخدرات التي تبعد عنها سبعون كيلو متراً ..تستطيع أن تفعل كل شيء ويعلم الجميع ذلك في مدينة “الأسرار المعلنة ” لكن ذلك لم يضمن للرجل حالة الرضا التي كان يتمناها .
يعلم بوني أنه يخالف كل التعليمات ولكن ظنه أن ما يفعله يضمن له طول البقاء وتحقيق ثروة هائلة يضمنها المستفيدون من طريقته في إدارة الأمور دفعه للاستمرار ..كل المقاهي يمتلكها نفر ممن يتحلقون حوله في كل مكان يزوره مرتدياً الزي التقليدي لفلاحي كولومبيا.. البنطال والقميص ذو الأكمام الطويلة وقبعة “سومريرو” وحقيبة جلدية وحذاء إسبادريل بسيط في محاولة مبالغ فيها للتقرب من العامة .. “البونشو”عباءة من الصُّوف بدون أكمام يرتديها في الشتاء فتمنحه تطابقاً مع أي عابر سبيل في شوارع جواتابي .
رجل بوني المقرب “خوان” والذي يناله التدليل كثيراً فيناديه “خوانيتو ” لا يتوقف عن الهمس في أذنه ويترجم بوني ملاحظاته إلى قرارات : سيدي كثرة شرب “الأجواردينتي ” تسبب شجارات كبيرة . ..يسارع السيد بوني بتحديد الكميات المسموح بها أعلى الصخرة ولا يشمل ذلك البار الذي يديره نجل خوانيتو ..ويلقب الأجواردينتي ب “الماء الناري” ويصنع من خليط الماء والكحول والسكر واليانسون وهو المشروب الروحي الأكثر شيوعاً في كولومبيا.
لم يسبق وأن تسلق بوني صحبة حراسه قمة الصخرة وإن كان رفاقه أبطال قصص اللهو ورفقة الغانيات ولهم في ذلك بطولات يتحاكى بها كل سكان جواتابي سراً حيث تتوقف الحكايات قبل ملامسة أذن العمدة..كان لديه هاجس قوي نحوها وخوف لا مبرر له حيث لم تشهد السنوات الطويلة أية حوادث أعلى الصخرة أو حولها ولكن طبيعته وخوفه الدائم من أي شيء وكل شيء أبقياه في الأسفل بعيداً عن تلك القمة .
كل شيء في المدينة كان يتسم بالهدوء ولكن الراحة امتنعت عن زيارة أهلها ولم يضبط أحدهم سعيداً في يوم أو مساء ليلة الأحد حين يباح السهر والشرب..على العكس تماماً يثور كل السكارى ويكيلون الشتائم لخوانيتو وبوني في غيابهم إلا بيدرو صاحب الصوت الجهوري الذي نزل من قمة جواتابي ذات يوم واتجه مباشرة حيث يجلس بوني وعاجله بسيل من الألفاظ والاتهامات لم يتمكن من استكماله بعد أن طوقه رجال خوانيتو مبتعدين به عن طاولة العمدة .
أيقن بوني أن هناك شيء ما يحدث كشفه بيدرو الغاضب الذي قال كلاماً عن رشاوى وفقراء وجوعى لم يسبق له رؤيتهم بخلاف كلمات عن الفساد أغضبته كثيراً ..انتفض الرجل واقفاً ..هم بالصعود رغم محاولات إقناعه بصعوبة صعود كل هذا الارتفاع لكنه أصر وأمرهم بالبقاء في أماكنهم .. صعد متناسياً خوفه الأزلي بحماسة لا تراعي عقده الثامن .. درجة بعد أخرى أخذ شبح الرجل يتضاءل شيئاً فشيئاً حتى كاد يختفي ..مر الوقت ثقيلاً على خوانيتو ورجاله يتبادلون الحديث بصوت مرتفع : ماذا سيفعل بعد أن يرى كل ما يجري هناك؟ ..هو يعلم كل صغيرة وكبيرة ..أنت السبب .. بل أنتم ..تحول النقاش إلى شجار لم يوقفه سوى صوت ارتطام لجسد صغير يلفه بونشو يشبه ذلك الذي يرتديه سيد المدينة وعمدتها ..سقط أو أسقطه أحدهم ..كانت إلإطلالة الأولى والأخيرة للسيد بوني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى