الهدية

قصة
الهدية
نجاح الدروبي
أزاحت طرف الستارة عن النافذة المطلَّة على الحديقة فغمرها نور الشمس غمراً حلواً، وأضاء المكتبة الصغيرة الراقدة فوق الرفِّ بنشوة عارمة، فإذا بهذا النور يُذكِّرها بهدية خالها التي كانت عبارة عن موسوعة علميَّة فيها مجموعة من الصور الملوَّنة مع كثير من الكلمات الشارحة.
كانت “نوَّار” تتطلَّع إلى هذه الهدية بإعجاب.. تأخذها من المكتبة.. تنظر إلى غلافها الملوَّن.. تدسُّ أصابعها بين صفحاتها وتبدأ بتقليبها، ثمَّ تُعيدها إلى المكتبة خوفاً عليها من أخوتها الصغار الذين لا يطالون شيئاً إلا ويُمزِّقونه.
لقد أدهشتها هذه الصور الزاهية واستهوتها تلك الرسومات النافرة لدرجة جعلت السعادة ترفرف بين أضلاعها، فإذا بها تبتعد عن قراءة ما فيها من معلومات مفيدة وشروح وافية لظواهر علمية مختلفة، وبذلك ابتعدت عن نصيحة خالها في قطف ثمار المعرفة وجني بذور المتعة والاطلاع، ولم تعِ الغاية من إهدائها إلى أن صادف مجئ قريبها في ذاك اليوم وظفر بابتسامة الجميع ورضاهم، وخاصةً نوَّار التي ما إن رأته حتى شعرت بالسرور والهناء، وأخذت تُمعن النظر في وجهه للحظات، فإذا بها ترى رجلاً مثقفاً قد تخطَّى الأربعين بعام واحد، ذا وجه يحمل على سيميائه براءة طفوليَّة، وتشعُّ من عينيه نظرات نابضة بالدفء والحب والحنان.
عندما رآها قال لها:
-كيف حالك ياصغيرتي؟ هل أعجبتكِ الموسوعة العلمية؟
أجابت:
-نعم أعجبتني كثيراً كثيراً..!
ظنَّ الخال في قرارة نفسه أنَّ نوَّار قد قرأت الموسوعة بإمعانٍ ورويَّة، خاصَّة وأنَّ الشرح المرافق للصور سهلٌ وغير معقَّد على أحد؛ لكنَّه عندما انتقل إلى غرفة الطعام لتناول وجبة الغداء مع العائلة وقف مشدوهاً فاغر الفم لرؤية ابنة أخته وهي تجلس خافضة الرأس، حانية الظهر يكاد الطعام يُلامس وجهها، فما إن ترى اللحم المخلوط بالأرز حتى ترميه جانباً ولا تأكله، غافلةً عمَّا يحتويه من فيتامينات.
استاء الخال من تصرُّف الفتاة وقال لها مُؤنِّباً:
لماذا تجلسين هكذا يا نوَّار، ألم تقرئي وضعيَّة الجلوس الصحيحة الموجودة في الموسوعة؟
أجابت نوَّار باستحياء وبصوتٍ مرتعش: لا.. لا.. لم أقرأ
قال الخال:
-ماذا قرأتِ إذن؟
ردَّت الفتاة:
-رأيتُ صوراً ورسوماتٍ غاية في الجمال لهياكل عظميَّة، وجماجم مرميَّة، وكهوف منسيَّة، وحيوانات وحشيَّة.
ارتعش الرجل من الإجابة كمَنْ مسَّه تيارٌ صاعقٌ، ونظر إلى أخته مستغرباً قلقاً فإذا بها تُعلِّق على ما حدث قائلةً:
-إنها دائماً تجلس هكذا عندما تأكل أو تقرأ وتكتب حتى صارت تعاني من وجعٍ في الظهر، ونقصٍ في الكلس فهي دائماً تْعرض عن شرب الحليب وأكل اللحم، وباعتبارها كبرى أخوتها فقد أصبحوا يُقلِّدونها فيما تفعل.
ذُهِلَ الخال من كلام الأم وخالطه شعور الخيبة والحسرة، فغدا شاحباً مغتاظاً لا يدري ماذا يفعل، لكنه بعد برهة من التفكير قرَّر أن يُعاقبها فقال لها:
-سأستردُّ الهدية منك يا نوَّار طالما لم تُدركي الفائدة منها.
صاحت نوَّار باكية:
-لا.. سأقرؤها أُقسم لك إنّني سأقرؤها.
تراجع الخال عن قراره هنيهةً عندما أحسَّ التصميم ينبعث من كلامها، وقال لها:
-نعم اقرئيها وصاحبيها وأمعني النظر في دقائقها، فإنك ستشعرين عندها أنك تبتعدين رويداً رويداً عن شاطئٍ في رحلة غريبة لتدخلي عالماً مدهشاً.. عالماً من الدعة والمعرفة والثقافة!
أبحرت نوَّار في خضم الموسوعة، وجالت في جنباتها، وقرأت صفحاتها حتى ارتوت من فيض معلوماتها، وآلت على نفسها ألا تدع كتاباً مفيداً بعد اليوم إلَّا وتقرأه.







