
في البدءِ كنتُ نهرًا…
يمشي على قدمين،
يحملُ في راحتيه ترابَ الجهاتِ الأربع،
ويغرسُ في كلِّ جهةٍ امرأةً
كي يكتملَ الكونُ بالظلِّ والطينِ والماءْ.
لكنّ الريحَ خانتْني،
فتناثرتْ فصولي،
وصارَ لي في كلِّ عتمةٍ وجهٌ مكسور،
وفي كلِّ مرايا العمرِ صرخةُ طفلٍ لم يُكمِل اسمه.
(1)
قالتْ الأولى:
“أنا النورُ القادمُ من جهةِ الرملِ”،
فأوقدتُ لها مصباحَ سترٍ،
لكنَّ الرملَ لا يحتفظُ بالآثار،
والنارُ التي خبّأتها في صدري
صارت رمادًا يُغنّي للعارِ بلا خجلٍ.
(2)
وقالت الثانية:
“أنا رحمُ القرابةِ، ظلُّ الدمِ القريبْ”،
فأودعتُها مفاتيحَ بيتي وقلبي،
لكنّ القربَ حينَ يذوبُ في الغفلةِ
يُخلّفُ موتًا صغيرًا في الزاوية،
يشبهُ طفلةً غَرِقتْ في جردلِ الغيابْ.
(3)
وقالت الثالثة:
“أنا الموجةُ الآتيةُ من شاشةٍ زرقاء،
من زمنٍ لا رائحةَ فيه ولا ندمْ”،
فأبحرتُ نحوها…
وفي منتصفِ الطريقِ اكتشفتُ أني كنتُ وحدي،
وأنَّ البحرَ كلّه كان جسدًا واحدًا
ينزفُ شهوةً دونَ قلبٍ،
ويُعيدُ تدويرَ الخديعةِ في هيئةِ قبلةٍ.
(4)
وقالت الرابعة:
“أنا نجمةُ الخلاصِ الهاربةُ من ليلٍ خاوٍ”،
فصدّقتُها…
ولم أدرِ أنّ النجومَ تُضيءُ فقط
حينَ تحترقْ.
كانتْ تمارسُ الغيابَ كطقسٍ يوميٍّ،
تزرعُ في الهواءِ أرقامًا،
وفي الهاتفِ أنينَ رجالٍ من دخانٍ،
وفي البيتِ عفنَ اللامبالاةِ.
(الوجع الخامس)
ثمّ سكتَ كلُّ شيء،
إلا ساقي اليمنى،
تمردتْ عليّ وقالتْ بلغةِ الدمِ:
“لم أعدْ أطيقُ حملَ خطاياك،
قفْ، ودعْ الأرضَ ترتاحْ منكْ.”
حينها فهمتُ…
أنَّ الجسدَ آخرُ من يعلنُ الحقيقة،
حينَ يُصابُ القلبُ بالخذلانِ
تُصابُ الأطرافُ بالجمودْ.
(الختام)
أنا العابرُ بين أربعِ نساءٍ
وأربعةِ فصولٍ من التيه،
كلُّ واحدةٍ أخذتْ منّي ظلّي،
وتركتْ فيّ شقًّا في الصدرِ
بحجمِ قافيةٍ لم تكتملْ.
الآنَ أجلسُ عندَ حافةِ عمري،
أرمّمُ جدارَ الوقتِ بعُكّازي،
وأكتبُ على رُكامِ الذاكرة:
 “يا ربّ،
أنقذْ قلبًا ظلَّ يؤمنُ بالحبِّ
في زمنٍ صارَ فيه الوفاءُ أسطورةً،
والمرأةُ مجازًا للخيانة،
والرحمةُ… عطشًا مؤجّلًا
في فمِ الصابرين.”
حسن غربب أحمد
					
					
					





					
				
