
هدية الى بغداد
قصة قصيرة
تلك الصباحات الخريفية العتيقة، التي مرّ عليها أربعة عقود خلت، كانت تجلس فيها جدتي في باحة الدار المكشوفة. النخيل يظللها والشجر، وهي غارقة بين سلال التمر وما حاكته أناملها من حصران. مع خيوط شمس الصباح الأولى، بدأت طقسها السنوي: تفريد التمر الطري وعزله.
شفتاها تتمتمان مواويلاً حزيناً يقطر وجعاً: (تمنيت الإبن يمي وحاچيه.. وراويه حال امه وبچيه).
رمقتني بنظرتها الثاقبة التي ألجمت هرولتي الطائشة وجعلتني أجلس إلى جوارها.
تأملت أناملها النحيفة الجميلة، عينيها الواسعتين اللتين يظللهما حاجب متقدم ومهدل، وتخسفات وجهها المضيء ببياض ناصع. كانت تفتح حبة التمر الواحدة تلو الأخرى، تخرج النوى بدقة متناهية.
أشارت لي أن أدني إليها الصفائح المعدنية. فيها الكمون وحبة الحلوة والزعتر والسمسم. بدأت تصنع تحفتها: تضع طبقة من التمر المدعوك جيداً، ترش عليها من الخليط العطري، ثم تسكب كوباً من عسل التمر، وتردف بطبقة أخرى. هكذا دواليك حتى امتلأت الصفيحة، فأحكمت غطاءها ودفعته جانباً بابتسامة نصر صغيرة، مشيرة بـيديها: “جاهزة”.
زفرتُ نفساً عميقاً وسألت باستغراب طفولي:
– “ولمن كل هذا يا جدة؟ هي تمرة نأكلها وانتهى الأمر!”
– “هذه هدية أعدها كل سنة إلى أخوالك في بغداد. أنا أسميها مربى التمر، هم يحبونها.” ثم طلبت مني: “ناوليني الخصاف (٢) أضع فيه التمر وأكبسه جيداً.”
مسحتُ العرق عن جبيني، فنظرت في وجهي، وظهرت نواجذها بلطف في بسمتها المنهكة.
– “انهضي، أحضري ملابسك. غداً تسافرين معي إلى بغداد.
– ” وهل بغداد جميلة؟
– “نعم، هي العاصمة، فكيف لا تكون جميلة؟” قالتها وكأنها تحاول إقناع نفسها، لكن قلقها الأبدي لم يفارق نبرتها:
أنا في قلق مستمر، خائفة على خوالك دخلوا بالسياسة.
في مساء اليوم التالي، كانت محطة القطار تغص بطابور لا نهاية له من المسافرين. أجلستُ جدتي في مكان مخصص، ورزمتُ أحمال التمور مع الأمتعة. انطلق القطار معلناً بداية الرحلة. جلست جدتي قرب النافذة وشاحت بوجهها عني، ظننتها مستغرقة في جمال المناظر. تحولتُ إلى المقعد المقابل لأرى وجهها: رأيت الدموع تنزلق على خديها كالمطر.
عندما رأتني أمامها، أطلقت نحيبها المكتوم، ونادت بوجع الأمومة الذي لا يهدأ: (يمه الولد ماكو بعِزه واله بتالي الليل فزه). لم تنم تلك الليلة، كانت عيناها تتأملان الظلام بقلق الأم الخائف.
في الصباح الباكر وصلنا بغداد، محطتنا الأخيرة. أنزلنا البضائع، واستأجرنا سيارة خاصة. وعندما وصلنا وجهتنا، جمدنا في مكاننا: رجال أمن يحرسون باب بيت الخوال.
دفعتُ عربة جدتي، والخوف يتسلل إلى عظامي، لم أستطع تحريك العربة. تقدم إلينا ابن الجيران وهمس بصوت خفيض يكاد يبتلعه الصمت: “عظم الله أجرك يا جدة… ابنك كاظم أُعدم هو وزوجته لتدخلهما بالسياسة. وممنوع البكاء والنواح، لا عزاء لكم.”
صرخت بصوت عالٍ، شهقة ألم مزقت صدرها، ورمت نفسها على الأرض، متمسكة بآخر خيط من القوة لتردد مرثيتها: (اجيتك ييمه وكلي هموم، وتدري إمك ما تكدر تكوم). ثم استجمعت كل ما تبقى من روحها في جملة أخيرة، كانت عهدها الأبدي: (اريد وياك يمه ما ريد الهوى وحگ الله موتتنا سوه).
القاص مهدي الجابري . العراق







