غير مصنف

حسين السيّاب: القصيدةُ ولادةٌ من الطين والمطر

حسين السياب: القصيدة ولادة من الطين والمطر
حوار: نجاح الدروبي

في تجربةٍ شعريةٍ مشبعةٍ بالرمز والوجع والضوء، يكتب الشاعر حسين السيّاب قصيدته كما لو يكتب ملامحه الخاصة على صفحة الوجود. في هذا الحوار، نتوقّف معه عند بعض المفاصل الجوهرية في تجربته، بين العنوان والبيئة واللغة والإنسان.
س/ تميَّزتَ بتجربة شعرية خاصة، بدءاً من العنوان الذي هندسته ورسمته بطريقة فنية عالية عندما اعتمدت على المواربة بحرفية عالية المستوى، إذ لم تقل مطر على خد طين العراق؛ بل قلت مطر على خد الطين كي يبقى مفتوحاً على مصراعيه.. هل هذا صحيح؟
-نعم، كان اختياري لعنوان «مطرٌ على خدِّ الطين» فعلاً مقصوداً، لأنني أردتُ أن أحرّر النص من التحديد الجغرافي المباشر. “الطين” عندي ليس طين العراق فحسب، بل طين الإنسان والوجود، الطين الذي خُلقنا منه ونعود إليه. أما “الخدّ” فهو موضع اللمسة، موضع الوجع والعاطفة والجمال. أردتُ للعنوان أن يكون فضاءً مفتوحاً يتيح للقارئ أن يرى في المطر خلاصاً وفي الطين ذاكرةً، وفي تلاقيهما لحظة ولادةٍ وانبعاث.
س/ في قصائدك مفردات مستوحاة من مدينتك.. ما أثر البيئة في شعرك؟
-البيئة بالنسبة لي ليست خلفية للمشهد، بل كائن حيّ أتنفَّسه.. مدينة مثل البصرة علّمتني أن أرى في النخلة مرثيةً شامخة، وفي النهر ذاكرةً متدفقة، وفي الملح وجعاً جميلاً. مفردات مثل المطر والطين والنهر والنخيل تنبض في قصيدتي لأنها جزء من تكويني. هي ليست استعارات لغوية بل جذور وجودية، تنبت من تربة الذاكرة وتثمر في اللغة.
س/ من أين تمتح أعلى تجليات الحب البشري؟
-الحب في شعري ليس غزلاً عاطفياً عابراً، بل طاقة وجودية كبرى. أستمدّ تجلياته من الأم، من المرأة، من الوطن، من الفقد، من الحياة والموت معاً. الحب عندي لا ينفصل عن الألم، بل يتغذّى منه. حين أكتب عن الحب، أكتب عن إنسانٍ يتوق لأن يشفى من وحدته بالآخر، أو ربما بالشعر ذاته.
س/ ما أثر اللغة العاكسة لرؤاك المنبثقة من خلال خوض تجارب منوَّعة على مستوى الواقع والمخيّلة في صياغة معانٍ جديدة للحياة مُعبِّرة عن الشغف والحنين، وهل تعيش مرحلة نكوص للماضي؟
-اللغة في تجربتي ليست وسيلة تعبير، بل كينونة موازية للوجود. أكتب بها لأعيد خلق العالم وفق رؤيتي. كل تجربة أعيشها، واقعية كانت أو متخيّلة، تتحوّل في اللغة إلى معنى جديد للحياة. أمّا الماضي، فلا أعود إليه كحنينٍ أو نكوص، بل كطاقةٍ خلاقة أستدعيها لأفهم الحاضر وأعيد بناء الذاكرة في ضوء الشعر.
س/ دائماً يسكن الحزن فينا ويسكن من حولنا ومعنا وفي أدبنا الذي يعكس ما تحمله مخيلاتنا من أحلام وكوابيس وأشياء أخرى بمفارقاتها الحادة.. هل شعرك يحمل ظاهراً روح الغزل والحب، إلا أنَّ جوانية بعيدة مليئة بالألوان والمكابدات المُرَّة القاتمة؟
-بلا شك. ظاهر النص قد يبدو عاشقاً، لكن باطنه موغل في الحزن. الحب عندي وجه آخر للفقد، والمشاعر المضيئة لا تنفصل عن ظلالها القاتمة. أكتب الحب كمن يخشى ضياعه، وأكتب الفقد كمن يبحث عن أثر حبٍّ مفقود. الجمال في القصيدة يولد من المفارقة بين ما يُقال وما يختبئ خلف الصمت.
س/ ما أهمُّ الرموز والعناصر الطبيعية المجسِّدة للصراع بين الواقع والخيال في شعرك، وهل يُبرز الأضداد تناقضات الوجود الإنساني؟
-الرموز الطبيعية في شعري – كالمطر والطين والنهر والنخلة – ليست من الخارج بل من الداخل. هي تعبير عن حالاتٍ روحية ووجودية. المطر مثلاً هو دمعة وولادة في الوقت نفسه، والنخلة أنثى شامخة في مواجهة الريح. أؤمن أن الأضداد تصنع الشعر، وأن الحياة لا تُرى إلا من خلال تناقضاتها: الضوء لا يُدرك إلا في العتمة، والموت لا يُفهم إلا حين نعشق الحياة.
س/ أنت حاضر في المشهد الإبداعي.. كيف يمكن تجاوز المحلية إلى ضفاف العالمية؟
-العالمية لا تعني الخروج من الجغرافيا، بل الارتقاء بالإنسانية في التجربة. حين يكتب الشاعر بصدقٍ عن ذاته ووجعه وبيئته، فإنه يكتب عن الإنسان في كل مكان. القصيدة التي تولد من طين الوطن ومن رائحة الملح والنخيل قادرة على أن تخاطب قارئاً في أقصى الأرض، لأن الشعر في جوهره كائن إنساني لا تحدّه الحدود.
س/ كثيراً ما يلوح في قصائدك أن الكتابة فعل خلاصٍ ومقاومة.. ما موقع الشعر في مواجهة العدم والخراب؟
-الشعر بالنسبة لي ليس ترفاً لغوياً ولا احتفاءً بالجمال فحسب، بل هو شكل من أشكال المقاومة ضد العدم. أكتب لأتذكّر أنني ما زلتُ حيّاً وسط هذا الركام. القصيدة عندي محاولة لترميم ما تهشّم في الإنسان، لترميم الطين الذي تصدّع من ثقل الألم. حين أكتب، أخلّص نفسي من خوفي، وأحاور العالم على طريقتي، كأنني أزرع شجرة في أرضٍ يابسة وأنتظر منها مطراً آخر.
الشعر لا يُنقذ العالم، لكنه يُنقذ الشاعر من صمته، ويمنح الآخرين مرآةً ليروا وجوههم في وهج الحروف.
ختاماً، يقول الشاعر حسين السياب:
القصيدة عندي ليست كلاماً يُقال، بل حياة تُكتَب من رمادٍ ومطرٍ ونور، حيث يتحوّل الحزن إلى نبوءة، واللغة إلى خلاصٍ من العدم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى