غير مصنف

جبين الجبل المجعد.. بقلم البروفيسور د. تزيمين إيتيون تساي- التايوان

قبل أن يحلَّ الفجر خيطه الباهت الأول، يُخفي، تاي، السلف القديم للقمم، نصف غطائه العملاق.
بضربة شرقية واحدة، لم تشرق بعد، ولم تُظلم تماماً، ممتدة بين السماء والأرض، كلفافةٍ منفتحة من الحبر والغسيل، وحافتها معقودة في عمق التفكير.
ترتفع حوافٌ خلف حواف، طيَّاتها واضحة ككتابة.
كلّ طيَّة منها بصمة تركها الزمن وهو يقلبُ صفحةً أخرى.
أنفاس الملوك التي دامت ألف عام، وطبول وأبواق الطقوس المهيبة البرونزية، قد تلاشت منذ زمنٍ طويل خلف السحب المنجرفة.
لم يبقَ سوى أشجار الصنوبر الخضراء والشواهد المحطَّمة، شاهداً صامتاً على صعود السلالات وسقوطها.
أقف عند سفح الجبل، ورأسي منحني للخلف نحو ذلك الجبين الذي يمتد عبر السماء من طرفها إلى طرفها.
جسدي يضعف حتى كاد يتلاشى كذرة غبار عالقة في نظرته المتجعِّدة، خفيفة بما يكفي لنفخة عابرة لترفعها وتنتشر بلا اسم، في أيِّ مكان.
لاتزال الدرجات الحجرية تحمل أمطار الليلة الماضية؛ الطحالب تلمع مظلمةً كمخطوطة قديمة.
تتراص خيوط الندى متلاصقة، سطراً سطراً، كتاريخٍ انقطع في منتصف جملة.. فجواته مفتوحة لنا لنكملها كما نشاء.
تسحب حشرةٌ صغيرةٌ بذرةً أضعاف حجمها، بوصةً بوصةً.. صبورةً على الدرج. لا تعرف طول “تاي”، فقط خطوة وخطوة تالية.
عزمها الهادئ يفوق عزيمة معظم البشر.
لاتزال بوابة الجبل مغلقة، لكن البخور قد سبقها.
من ديرٍ قديمٍ في منتصف المنحدر، ينساب صوت سمكةٍ خشبية جوفاء.
وتنزل على ريح الصنوبر، تنقر على كلِّ كتفٍ تمرُّ به.
يا من تسرع عبر غبار العالم الأحمر، هل تعرف حقاً من أين أتيت، أو إلى أين تقودك خطواتك؟
تتساقط إبر الصنوبر بصمت رقيقة كهمسٍ على كمِّي.
تحملها نسمة ريح جبلية فجأةً بهدوء، كما لو كانت وعود هذا العالم البشري، خفيفة عندما تخرج من الشفاه، ثقيلة حين تُؤخذ على محمل الجد.
خطوة تلوَ خطوة، أصعد. تغرق أسوار المدينة تحت أطراف الغيوم.
حركة المرور تُصدر همهمة، ومقتطفات من الكلام، وهج النيون، وشاشات تتوهَّج في أقفاصها الزجاجية الصغيرة، واحدة تلو الأخرى تُخفِّفُ الضوضاء، وتنخفض إلى أدنى مستوى حتى يجد الصمت متَّسعاً للعودة.
تتجمَّع الغيوم وتتقلَّص.. تتجمَّع وتتقلَّص؛ يتدحرج الضباب الأبيض في كتل ناعمة صلبة.
تضرب جبين الجبل المرتفع، لا يهزُّ رأسه ولا يُومئ.
بجسدٍ صامدٍ عبر عشرة آلاف عصر، يُسجِّل كلَّ ما يأتي ويذهب على هذا الدرب الجبلي الوحيد،
لا يُفرِّق بين الثروة أو المكانة، يسأل فقط عن مدى ارتعاش الركب وضيق التنفُّس.
أخاديد “تاي” ليست محفورة لعهدٍ واحد.
طبول الأباطرة الباهرة واستعراضاتهم وهم يُضحّون للسماء، حوَّلتها ريح الصنوبر إلى غبار.
على طول الدرجات الحجرية الحلزونية، لم يبقَ سوى ظل غراب عابر، يجهد كراوٍ مُنهكٍ ليُزيِّن مشهد المجد والانحطاط.
ألتفتُ وأنظر إلى الوراء.. الطريق الذي جئتُ منه ينحرف كالأفعى.
تتحرَّك جميع الكائنات الحيَّة على طوله كالنمل، كل عبءٍ خاص مضغوط بالفعل على سعف النخيل في الجبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى