ثقافه وفنون

“تحت شمس خفيفة (مقاربات في الشعر والحياة)..كتاب للشاعر والكاتب يوسف أبو لوز

في زمنٍ تتراجع فيه اللغة أمام ضجيج الصورة، وتختلط فيه الأصوات بين النشر السريع والمنجز العميق، يأتي كتاب “تحت شمس خفيفة (مقاربات في الشعر والحياة)” للشاعر والكاتب يوسف أبو لوز ليعيد البوصلة إلى جوهر الشعر، ويذكّر القرّاء بأن القصيدة ليست الشكل وحده، بل الوهج الذي لا ينطفئ في روح اللغة.

الكتاب الصادر حديثاً عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن (2026)، يقع في 368 صفحة من القطع المتوسط، ويضم أكثر من ثلاثين مقالة نقدية وتأملية، كتبها أبو لوز خلال مسيرته الممتدة بين الشعر والصحافة والثقافة العربية. المقالات تتوزع بين قراءات في الشعر العربي الحديث، وتأملات في تحولات القصيدة، واستحضارات لرموز شعرية عربية شكّلت ملامح الحسّ الجمالي العربي.

عنوان يفتح باب الأسئلة

يختار أبو لوز عنواناً مثيراً للتأمل العنوان، ليس مفارقة لغوية بقدر ما هو رؤية فلسفية لمعنى الشعر. نفسه. فالشاعر، في رأيه، قد يكتب نصوصاً تذبل تحت الشمس الخفيفة، لكن الشعر كطاقة وجودية يظلّ باقياً ما بقيت الحاجة الإنسانية إلى الجمال والمعنى. وكأنه يقول:

قد تذبل القصيدة لأنها ابنة زمنها ، ولكن الشعر لا يموت، فالعنوان هنا يختصر مسار أبو لوز النقدي، الذي طالما اشتبك مع النصوص الشعرية العربية من موقع العارف لا القاضي، ومن حسّ الشاعر لا من برج الناقد الأكاديمي فقط.

الكتاب: قراءة في ذاكرة الشعر العربي الحديث

يتنقّل يوسف أبو لوز في مقالات الكتاب بين محطات من الذاكرة الشعرية العربية، فيستحضر شعراء من أجيال متعددة، مثل: الخريمي، والمتنبي، وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، إلى محمود درويش وأدونيس، وعبد القادر الجنابي، وغيرهم ممن يكتبون بأدوات جديدة.

في كل مقالة، يوازن الكاتب بين الحنين والموضوعية، فيعيد قراءة هؤلاء الشعراء بعيداً عن الأسطرة أو الهجوم، بل من موقع التأمل الجمالي. فحين يكتب عن درويش، لا يتحدث عن “الرمز الوطني” فحسب، بل عن الشاعر الذي حوّل الحنين إلى فلسطين إلى بنية لغوية متجددة لا تنضب. أما حين يتأمل تجربة أدونيس، فيشير إلى قدرته على تحويل الفكر إلى شعر، دون أن يفقد الشغف الأول بالكلمة.

وفي مقالة بعنوان “خيانة.. نصف خيانة.. ولا بد منها… ترجمة الشعر وتقسيم البرابرة”

يناقش أبو لوز ترجمة الشعر إلى العربية قائلًا: “إن الترجمة إلى العربية تختلف من مترجم إلى آخر، هذا الاختلاف بالذات هو واحد من علل ترجمة الشعر. لكن في النهاية، وكما قالت أرملة ساراماغو: لا توجد ترجمة كاملة.. ما هو كامل تماماً هو اللغة عندما تكون قيمة، وصورة شعرية فاتنة”.

منبر للحوار النقدي الهادئ

على امتداد مقالاته، يحرص يوسف أبو لوز على ما يسميه “النقد الحيّ”، أي النقد الذي لا ينغلق على المصطلح الأكاديمي، بل يحاور القارئ والشاعر والناقد في آن واحد. لغته تجمع بين العمق والدفء، بين رصانة الفكرة وأناقة العبارة. ولعل هذا ما جعل الكتاب قريباً من القارئ العام والنخبوي في آن.

يقول في إحدى مقالاته الموسومة بـ “وجوه الأبوّة الأربعة… الشعري، الرّوحي، النصّ، الشخص” منصفًا المتنبي كأب روحي للشعر العربي:

“وفي تاريخ الشعرية العربية الحديثة، وهكذا فإن أكثر من أب واحد في الجماعة الشعرية لا يعني مطلقاً أي أثر أدبي يُشار إليه دائماً من وقت إلى آخر، في حين أن الأثر «الأبوي» الذي تركه «المتنبي» وحده وحتى اليوم يعادل مئات وربما آلاف الشعراء سواء أكانوا فرادى، أم كانوا جماعات”.

بين الصحافة والشعر: توازن نادر

يوسف أبو لوز من الأسماء التي استطاعت أن تصنع توازناً نادراً بين العمل الصحفي اليومي والكتابة الشعرية. فمنذ بداياته في الصحافة الثقافية، ظلّ محافظاً على صوتٍ خاص، يتجنّب الانفعال اللحظي لصالح الرؤية الأعمق.

وفي كتابه هذا، تظهر خبرته الصحفية في تنظيم الفكرة وتكثيفها، كما تظهر شاعريته في بناء الجملة التي تنبض بإيقاعٍ داخلي. ومن هنا، تتبدّى روح الشاعر في كل سطر يكتبه الناقد. فهو، وإن كان يتحدث عن الآخرين، إنما يتحدث عن نفسه أيضاً؛ عن تجربته الطويلة في محراب الكلمة، وعن علاقته بالشعر كحياة كاملة لا كمهنة أو موضوع دراسة.

بهذا المزج بين الحسّ الصحفي والذائقة الشعرية، يصنع أبو لوز كتاباً أقرب إلى رحلةٍ فكريةٍ وجماليةٍ داخل الشعر العربي المعاصر.

الكتاب مرآة لتجربة الكاتب نفسه

لا يمكن قراءة “تحت شمس خفيفة” بمعزل عن تجربة يوسف أبو لوز الشعرية. فهو صاحب دواوين عديدة جعلت منه واحداً من أبرز الأصوات الشعرية الأردنية والعربية في العقود الأخيرة. لذلك، يكتب من داخل التجربة، لا من خارجها. حين يتحدث عن “القصيدة بوصفها بحثاً عن الخلاص”، فإننا نسمع صدى ذاته، الشاعر الذي عاش الشعر “حياةً ثانية” لا تقل واقعية عن الحياة الأولى.

فيستشف من آرائه أنَّ الشاعر الحقيقي لا يكتب ليتباهى، بل لينقذ نفسه من العدم، وهذا يلخّص الروح التي تسري في الكتاب كله، روح الشعر بوصفه ملاذاً إنسانياً في عالمٍ متغيّر.

تنوع الأساليب والموضوعات

يتميّز الكتاب بتنوّع أساليبه وموضوعاته؛ فبعض المقالات نقديّ تحليلي، وأخرى تأملية ذات طابع شخصي، وثالثة تمزج بين السيرة الثقافية والقراءة الفنية. من عناوين هذه المقالات اللافتة:

* التفكير بواسطة الشعر.

* الشعر أيضاً يعيد نفسه وليس التاريخ فقط قصيدة لأبي يعقوب الخريمي كتبت قبل 1200 عام وترثي بغداد اليوم.

* الروائيون لم يتطفّلوا على الشعراء.

* مقاربة الشعر بالشعر.

* قلب الشعر المدوّنة الوجدانية للبشرية.

* تاريخ مملوء بالدم لكن بالعطر أيضاً مثلث الروح: المؤلف، الكتاب، والقارئ.

هذا التنوع يجعل الكتاب أقرب إلى بانوراما فكرية ترصد تحولات الشعر العربي على امتداد نصف قرن، دون أن تسقط في فخّ التوثيق الجاف.

رؤية إنسانية قبل أن تكون نقدية

ما يميّز مقالات أبو لوز هو بعدها الإنساني. فهو لا يرى الشعر مجرد بناء لغوي أو لعبة بلاغية، بل كفعل يكتب، بهذا المعنى، يتحول الكتاب إلى تأمل في معنى البقاء نفسه، وفي قدرة الكلمة على مقاومة الفناء. فكما يشير العنوان، القصائد تموت لأنها لحظة عابرة في مسيرة اللغة، لكن الشعر يبقى لأنه الينبوع الأول للحياة.

أسلوب شفاف ولغة أنيقة

يُعرف يوسف أبو لوز بأسلوبه الشفاف الذي يجمع بين صفاء اللغة وجمال الصورة. لا يتعالى على القارئ، ولا يفرّط في العمق. جُمله قصيرة، مشبعة بالإيقاع الداخلي، تتنقّل بين الفكرة والصورة بسلاسة

ففي كل مقالة، ثمة لمسة شاعرٍ يكتب عن الشعر بعين المحب، لا بعين المراقب. ولهذا، يُعد الكتاب مثالاً لما يمكن تسميته بـ”النقد الأدبي الجمالي”، الذي يعيد الاعتبار للذائقة وللجمال في زمن يغلب عليه التنظير المفرط.

مكانة الكتاب في المشهد النقدي العربي

لا بدَّ وأن “يحظى تحت شمس خفيفة” بمكانة خاصة في المكتبة النقدية العربية المعاصرة، لأنه يجمع بين روح المقالة الأدبية ورؤية الناقد المتمرس وخبرة الشاعر العميقة، ومن خلال مقالاته، يفتح أبو لوز حواراً متجدداً مع القارئ حول ماهية الشعر وجدواه في زمن ما بعد الحداثة، حيث تتغيّر المفاهيم وتتسارع الإيقاعات.

الكتاب، إذن، ليس مجرد مجموعة من المقالات المتفرقة، بل مشروع نقدي وفكري متكامل يعيد تعريف الشعر بوصفه وعياً باللغة والوجود، كما يقول مؤلفه.

خاتمة: الشعر كحياة لا تموت

في ختام الكتاب، يكتب يوسف أبو لوز سطراً يختصر رؤيته كلها: ” إن الشعر يعنى بالمعاناة والتضحية، إنه خلق في الجوهر، لذلك فهو إلهام، استدعاء، دقة إلهية، وعدل خيري…”

بهذه الروح المشرقة كما الشمس الخفيفة، يُغلق أبو لوز كتابه ويترك القارئ أمام مرآة الشعر الكبرى: مرآة الذات والذاكرة واللغة.

وإذا كانت القصائد ـ كما يقول ـ تموت، فإن هذا الكتاب نفسه يُثبت أن الشعر، ما دام نابضاً في القلب واللغة، لا يمكن أن يموت أبداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى