أجنحة الحرية…..بقلم مريم حسين أبو زيد

في قصر شامخ يحرسه أسوار من التقاليد، عاشت جمانة كطائر مغرد في قفص ذهبي. كانت روحها الفنية التواقة إلى الحرية ترسم على جدران عزلها لوحات صامتة تنتظر ضوءاً. لم تكن تعلم أن القدر سيخطفها من قصر أبيها الثري، مالك، ليلقي بها في أعماق الظلام، حيث تلتقي بمصيرها على يد عبد غامض اسمه كمال.
لم يكن كمال مجرد سجان تحول إلى حارس، بل كان النهر الهادئ الذي علمها كيف تنحت صخور المعاناة إلى تماثيل قوة. في الزنزانة، حيث كان الظلام يخفي دموعها، أضاء كمال شمعة الحكمة، معلماً إياها أن أعظم السجون هي تلك التي نبنيها بأفكارنا، وأقوى الحرية هي تلك التي تولد من رحم المعاناة.
“لا تبكي على قصر فقدته،” قال لها ذات ليلة، بينما كانت النجوم تتسلل من نافذة الزنزانة. “ابكي على قصر النفس إذا استسلمت لجدران الخوف.”
تعلمت منه كيف تحول الألم إلى درع،والضعف إلى قوة، حتى أصبحت نسخة لا تعرفها من نفسها.
وعندما اشتد المرض بأبيها، وودع الدنيا بعيون نادمة، لم تكن جمانة الفتاة التي عرفها. وقفت أمامه امرأة أشد من صخور الجبال، رافضة عرشاً لتبقى بجانب من علمها أن العظمة ليست في امتلاك القصور، بل في بناء عالمك الخاص بيديك.
غادرا معاً إلى قرية نائمة على ضفاف النهر، حيث بنيا كوخاً بسيطاً أصبح مملكتهما. هناك، حيث تنساب المياه كأنها أناشيد الحرية، راحت جمانة ترسم لوحاتها لتخلد رحلتها من الظلام إلى النور. كانت ترسم كمالاً وهو يزرع الأرض، وكأنه يزرع في قلبها قيماً جديدة.
وفي إحدى الليالي، بينما كانا يجلسان تحت النجوم، سألته: “أتعتقد أننا كنا سنلتقي لو لم يلقِ بنا القدر في ذلك الظلام؟”
أجابها مبتسماً:”القدر لا يصنع اللقاءات، بل يكتشفها. لقد وجدتك كما توجد المياه الجوفية في باطن الأرض، تحتاج فقط إلى من يحفر بإصرار ليصل إلى النبع.”
أدركت جمانة أنها لم تكن تبحث عن حبيب بقدر ما كانت تبحث عن نفسها، وعثرت على الاثنين معاً. لم يعد كمال ذلك العبد الغامض، بل أصبح جذور الشجرة التي تمدها بالقوة، وهي أصبحت الأغصان التي ترفرف في فضاء الحرية.
الخاتمة:
في صباح هادئ، وقفت جمانة أمام لوحتها الأخيرة، التي جمعت فيها بين صورة كمال في الحقل وصورة ظلها القديم داخل القفص الذهبي. كتبت في الزاوية: “أحياناً تضيق بنا السبل كي تثبت لنا أن الإنسان أوسع من كل السبل.”
التفتت إليه وقالت: “كنت تعتقد أنك تعلمني الصمود، لكنك في الحقيقة كنت تعيدني إلى فطرتي.”
أجابها:”وأنتِ، يا من علمتني أن القوة لا تقاس بقوة اليد، بل بقدرة القلب على الحب بعد أن يقسو عليه العالم.”
عاشا حكاية لم تكن مجرد قصة حب، بل كانت رحلة إنسانين إلى أعماق أنفسهما، حيث اكتشفا أن الحرية ليست مكاناً نصل إليه، بل قرار نتخذه، وأن الحب الحقيقي هو ذلك الذي يمنحك أجنحة لتطير، لا قفصاً لتستقر.







