حمزه الحسن يكتب : أجيال ليلة الكولونيل الحمراء

“”
ليس تاريخنا نتاج حتميات وتسلسل حوادث أو منطق بل تصنعه نزوات وحماقات ومصادفات وأهواء ورغبات،
وعادة يبحث المؤرخون في السجلات والوثائق عن شهود كبار وقادة وزعماء ومسؤولين لكنهم يتجاهلون الزوايا المعتمة وشهادة المهمشين والظلال الخفية التي تصنع الحدث الكبير ، أو التاريخ من أسفل،
ومن هنا يتقاطع الخطاب السردي الروائي مع خطاب المؤرخ والسياسي ، لأن سردية الروائي تبحث في الظلال الخفية ، في الأماكن المعتمة، في التقاط المنسي والمهمل والمبعد من الشهادة. بتعبير أدق : التاريخ من الأسفل وليس من الأعلى.
في فجر يوم السابع عشر تموز عام 1968 كان تاريخ العراق يُصنع في غرفة حمراء بين كولونيل حامل مفاتيح القصر الجمهوري وبين عشيقة فاتنة في شقة منزوية في عاصمة الرشيد،
في حين كان الانقلابيون على أبواب القصر حسب موعد مسبق وقد بزغ الفجر وليس هناك أي أثر لكولونيل المعدة وما تحت الحزام كما يُلقب سعدون غيدان في جلسات كبار الضباط، وتلك واحدة من كثير من الحوادث التي لا يذكرها المؤرخون،
التاريخ السردي المخفي والمسكوت عنه الغاطس في التفاصيل
لان تاريخنا رواية سلطة واحزاب وجماعات متحيزة وهو تاريخ مروي رغبياً،
وأما التاريخ القديم فالغالب عليه أنه تخيلي.
تأخر قدوم الكولونيل العقيد الركن سعدون غيدان عشر دقائق تقريباً
وتلك الدقائق العشر هي التي عصفت بالعالم وصنعت احداثا كبرى
بل نحن اليوم نعيش نتائج ليلة العقيد الحمراء
والتاريخ ليس دائما يتشكل من اسباب ومقدمات ونتائج وحتميات
خاصة تاريخنا حيث تلعب الحماقات دورا في صنع تاريخ .
فكر الانقلابيون بالانسحاب خوفاً من الانكشاف وكانت عقارب الساعة تقرع الرؤوس كالمطارق حسب شهادة الاستاذ صلاح عمر العلي في حوار مطول بيننا يوم كان رئيس تحرير جريدة “الوفاق ” المعارضة في لندن وكنت محررا رئيسيا فيها طوال سنوات التسعينات،
وهو أحد انقلابي ذلك اليوم وشاهد على الحدث وخرج مبكراً من النظام الى الخارج.
تلك اللحظات كان الناس غارقين في النوم كما اليوم، لا شيء يلوح في الأفق أن حدثاً عاصفاً سيغير تاريخ العراق، وغرفة العشيقة الحمراء تشع بالاغواء،
وحضرة الكولونيل بعد تلك الليلة المرهقة، وزجاجة الويسكي الفارغة على الطاولة الصغيرة،
مُستنزف الطاقة ويوشك على النوم، بل نام ونسي تماماً ساعة الصفر مع الانقلابيين،
وكيف يتذكر ساعة الصفر وهو أمام هذا الجسد المشع كرخام أبيض ينزلق فوقه ظل ناعم؟
أيهما أفضل النهوض للمشاركة في صنع تاريخ، أم النوم الى جوار جسد بهي والمشاركة في صنع بهجة؟
كانت الجماهير نائمة تلك اللحظات كما اليوم، المثقفون عادوا من الحانات بعد منتصف الليل كالعادة،
بعد ثرثرة لا تنتهي عن الريادة الشعرية وقصيدة النثر، وعربة يجرها حصان تحمل الشاعر جان دمو وسركون بولص مستأجرة للمزحة من شارع فرعي في البتاويين
كملوك سكارى يتجولون في عاصمة الوهم،
في حين كان الشاعر عبد الأمير الحصيري قد إنتهى تواً
من التبول في الغبش الأزرق الذي يسبق الفجر على جدار فندق السفير في شارع أبو نؤاس،
وكان الشاعر عبد الامير الحصيري مغرماً بالواجهة الزجاجية المعتمة
للفندق وهي واجهة شفافة بالأزرق الفاتح تلوح كملاذ من صيف بغدادي مهلك وقيظ مشتعل وكان لا يملك مكانا للنوم غير مصطبة في حدائق شارع ابو نؤاس قرب مقهى عزاوي ومقابل عمارة وكالة الانباء العراقية سابقاً
وهو يطرد أي شخص يجده جالساً عليها خاصة في أصياف بغداد الساخنة
وهي مساحته الوحيدة للنوم والحلم والانين
ومرة وجدني في منتصف نهار صيفي قائظ وملتهب نائما فوقها وهي تحت شجرة كما لو انني ارتكبت خطيئة في النوم بلا اذن في قصر لويس السادس عشر. تشاجرنا على ظل شجرة قرب القصور الفارهة.
كما لو قرع ناقوس في رأس كولونيل السراويل الحمراء، دق جرس غامض واشارة قادمة من قيعان اللاوعي والعقل الباطن عن موعد مر وانقلاب وشيك ومفاتيح يجب أن تُسلم لانه كان امراً في الحرس الجمهوري.
جفل فجأة وأرعب العشيقة النائمة وهو يردد:
” فات الأوان، فات الأوان”.
من الممكن أن ينسى الشخص مفاتيحه أو حافظة نقوده لكن أن ينسى
ساعة صفر لإنقلاب فأمر خارج المنطق إذا كان منطق في تلك الوقائع الغريبة وفي تاريخ العراق الذي تصنعه الحماقة والنزوة والصدفة عادة بلا سياق ولا تسلسل كما حدث في الماضي وكما سيحدث في اية لحظة اليوم، كان الكولونيل في متاهة.
قبل ليلة الانقلاب على الزعيم عبد الكريم قاسم في الثامن من شباط 1963،
كانت راقصة ملهى تعرف بساعة الصفر من خلال عشيق ضابط انقلابي متوله بها،
في حين كان المثقفون والثور ــــ يون الذين يشمون الخطر على مبعدة أميال
كما تقول كراريس تلقين الببغاوات،
يغطون في نوم الوعي ونوم التاريخ ويسحلون في الصباح
في الشوارع ويقتلون كصيد الساحرات في أوروبا في القرون الوسطى.
فشل مثقفو الحانات في الرؤية والاستشراف وشم الخطر والتوقع ونجحت بنات الليل والغرف الحمراء والمومسات والراقصات في معرفة ماذا سيحدث في اليوم التالي وسراديب السياسة كما اليوم .
نحن في التاريخ نفسه. تلك اللحظة في الفجر كان الرئيس عبد الرحمن عارف
يغط في نوم عميق بعد ثلاث العاب شطرنج مع أمر وحدة الحماية الخاصة خسرها جميعاً،
ولم يكن يعرف الرئيس أن آمر الحماية هو مشارك في انقلاب الفجر،
وكما لو أنها نبوءة قال الرئيس وهو يسترخي في كرسيه:
” أن يموت الملك أفضل من التضحية بحياة جنود أوفياء ولو في لعبة شطرنج”.
جفل آمر الحرس من هذه العبارة كما صرّح لصحيفة محلية يوماً، فسرها أول الأمر تلميحاً حاداً لدوره في الانقلاب،
لكنه غرق في نعاس عميق وتهدل راسه فوق الكرسي، وتلك كانت المرة الأخيرة التي يتهدل راسه فوق الكرسي الرئاسي.
قبل أن يشحن في سيارة نفايات الى المطار ثم الى المنفى في سراويل النوم وقد رافقه الى المطار صلاح عمر العلي نفسه وكان الرئيس المخلوع يردد في الطريق:
” من أنتم؟”
العبارة نفسها التي سيرددها العقيد القذافي ومبارك وزين العابدبن أيام الغليان وهؤلاء لا يعرفون من يحكمون إلا من تقارير الأمن والمخابرات الملفقة.
في اللحظة الأخيرة هبط سعدون غيدان من السيارة مترنحاً وإحتاج لحظات لكي يتوازن ويمشي، وكان يتأرجح كتاريخ مضطرب على وشك التشكّل،
وكل خطوة من خطواته كانت تعلن ميلاد أجيال ليلة الغلطة:
الأجيال التي ولدت تلك اللحظات في غرفة حمراء، من تزاوج الغفلة والتاريخ المغلق وثقافة العطب والخفة والغطرسة:
أي حضارة تلك التي تتهاوى بحفنة مسدسات، ودبابة عاطلة لكي تعلن ولادة المذبحة المستمرة؟
ليلة كولونيل السراويل الحمراء الذي مات برتبة فريق ركن، انتجت وطناً يشبه المسلخ، من الحروب الى الحصار والاحتلال والارهاب والطريق المجهول الذي لا أحد يعرف كيف ومتى ينتهي، لكنه سينتهي بالارتطام الأخير:
متى يحدث الارتطام الأخير لهذا القطار الذي مات سائقه بركابه النائمين ؟







