كتاب وشعراء

ضجيج الصمت … و احتضار اللحظة ..زكريا شيخ أحمد

مقال أدبي

ضجيج الصمت … و احتضار اللحظة
———————————————-

في ظل تعقيدات الحياة: هل فقدنا الصفاء؟

في كل حقبة من الزمن… يمر الإنسان بتغيرات عميقة. و بين تحولات العالم الكبرى… يتنقل البشر بين طموحاتهم و مشاغلهم، يتسرب شعورٌ خفي: شعور بفقدان الصلة بين الإنسان و ذاته و بين الروح و جمال الحياة الكامن في التفاصيل.

كلنا متفق على أن كل عصر له تحدياته و كل جيل يجرّ أوجاعه الخاصة. لكن في عصرنا الحالي يبدو أن البساطة التي كانت تحمل أسمى معاني الوجود قد بدأت بالتلاشي. نمرّ مرور العابر على اللحظات، لا نصغي لصمت الغروب، لا نحدّق طويلاً في سماء حزينة أو ورقة تسقط بهدوء من شجرة. كما لو أن ضجيج الحياة طمس صوتنا الداخلي.

لو كان ليو تولستوي يعيش بيننا اليوم، لربما أضاف فصولاً جديدة من الحيرة و المعاناة إلى رواياته.
كتب تولستوي في *الحرب و السلام*:
“الحياة ليست سوى وميض من الضوء في ظلمة لا نهائية.”
كلمات تَختزل الشعور بالتيه وسط تشظّي المعنى، حين يُختزل الزمن في إشعارات و رسائل، و يغدو المصير الإنساني سلسلةً من المحاولات للبقاء على اتصال لا مع الآخرين فقط و إنما مع الذات.

أما أنطوان تشيخوف فلطالما تكلّم بلغة السخرية الحزينة. في قصته *الرهان* كتب:
“كل ما تحتاجه البشرية هو الصمت و التأمل .”
و اليوم في عالم تضج به الشاشات، يبدو الصمت ترفاً و التأمل رفاهية لا يُقبِل عليها إلا من انسحب من سباق الزمن. و مع ذلك فإن في هذا الانسحاب المؤقت فرصة لاستعادة الصفاء، ذاك الذي غيّبته الوتيرة المتسارعة للحياة.

همنغواي الذي كان يكتب بكثافة المعنى في قلة الكلمات قال ذات مرة:
“أفضل طريقة لمعرفة ما إذا كان يمكنك الثقة بشخص ما هي أن تثق به.”
عبارة بسيطة لكنها ترمز إلى عمق الشعور الإنساني، و إلى إيمان متجذر بالبشر رغم الألم. لعله لو عاش في زمننا الحالي لكتب عن عالم يلهث خلف “الجديد” لدرجة أنه ينسى أن يعيش “الحقيقي”.

فرانز كافكا، الذي عرف الاغتراب كظلٍّ دائم كتب:
“لقد أصبحتُ صامتاً و لم أعد أعبّر عن نفسي لأني وجدت أن الناس لا يفهمون.”
عبارة تنطق بلسان جيل كامل يشعر أن العالم لم يعد يستوعب حقيقته، جيل صاخب من الخارج، منهك من الداخل.

ثم يأتي ألدوس هكسلي الذي حذّر من أن يسلبنا الترف القدرة على الإحساس، حين قال في *عالم جديد شجاع*:
“سوف يحبّ الناس عبوديتهم و لن يفكر أحد في الثورة.”
و ها نحن نرى كيف يسهم التدفق المعلوماتي و الراحة السطحية في تغييب القلق الحقيقي، ذاك القلق الذي كان يدفع الإنسان نحو التأمل و الإبداع.

و برؤية فلسفية يتحدث ألبير كامو عن عبثية الحياة، لا ليقودنا إلى اليأس، بل ليقول:
“يجب أن نتخيل أن سيزيف كان سعيداً .”
أن نرتقي فوق العبث عبر الاعتراف به و أن نستعيد الصفاء رغم معرفتنا بفوضى العالم.

حتى في الأدب العربي وقف جبران خليل جبران ليهمس قائلاً :
“أنتم تفرحون بالحياة لأنكم تخافون الموت.”
ماذا لو كانت العودة للصفاء هي الجرأة في مواجهة الحقيقة لا الهروب منها؟

اليوم رغم كل الضوضاء لا يزال الفن و الأدب و الموسيقى أبواباً مفتوحة نحو الداخل. إنها لا تموت، لكنها تنتظرنا أن نصغي من جديد. صحيح أن وسائل التواصل زادت من الفوضى، لكنها أيضاً أتاحت لمن لا صوت له أن يُسمِع. التحدي لم يعد في إنتاج المعنى و إنما في استقباله.
في التوقف… لا للجمود، بل للفهم.

ربما لم نفقد الصفاء، بل نسيناه فقط. و ربما آن الأوان لنتذكره.
في الزوايا الخفية من أنفسنا، ما زلنا نبحث عن لحظة صدق، عن مشهد صامت، عن تأثر عميق. و هذا السعي كما في الماضي هو ما يجعل الإنسان إنساناً و يجعل الفن خالداً.

فلنعد، لا إلى الوراء و إنما إلى الداخل .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى