رؤي ومقالات

د. فيروز الولي تكتب : حين تصنع “الحكمة” الفقر

المقولات اليمنية بين ثقافة الطموح الغربية وصناعة التعاسة المحلية
في اليمن، الفقر ليس مجرد نتيجة حرب أو أزمة اقتصادية… بل نتيجة موروث ثقافي يحرس الفقر حراسة مشددة.
أربع مقولات شعبية فقط… لو قيلت في الدول الأجنبية لضحكوا عليها كما نضحك نحن من الكرتون القديم:
صيت الغناء
الفلوس وسخ الدني
القناعة كنز لا يفنى
الطمع يقل ما جمع
تبدو لطيفة… لكنها في الحقيقة قوانين غير مكتوبة لصناعة شعب يخاف الحلم.
والآن… لنقارن:
كيف يتعامل اليمنيون مع هذه المقولات؟
وكيف تتعامل بها الدول التي بنت شركات، جامعات، واقتصادات تصنع المستقبل؟
أولاً: البعد النفسي – بين اليمني الذي يخاف نجاحه… والمواطن الغربي الذي يعلن إنجازاته بفخر
في اليمن تقول:
“صيت الغِنى”
أي: “إذا نجحت… لا تخبر أحد، العين حق، والحارة ما ترحم!”
لكن في الدول الأجنبية؟
إذا حقّق شخص نجاحاً، ينشره فوراً على “LinkedIn”، يتلقى مئات التهاني، وشركات تعرض عليه وظائف.
في أمريكا وأوروبا:
نجاحك سيرة ذاتية.
في اليمن:
نجاحك تهمة تحتاج محامي دفاع.
مشهد مقارنة مختصر:
يمني يشتري سيارة: يخفيها تحت مظلة ويقول للناس: “سيارة صديق!”
أجنبي يشتري دراجة: يصور نفسه عليها، ويكتب: “أول خطوة نحو حياة صحية!”
نحن نخاف أن نرتفع… هم يخافون أن يتوقفوا.
ثانياً: البعد الاجتماعي – “الفلوس وسخ الدنيا” عند اليمنيين… ووسيلة حياة عند الأجانب
عند اليمنيين، المال “وسخ دنيا”.
لكن في الدول المتقدمة، المال ليس “وسخاً”… بل أداة:
يصنعون به مدارس، طرق، شركات، مختبرات، ومنتجعات صحية.
في اليمن، إذا قلت إنك تريد الثراء… كنت كأنك أعلنت الانضمام لعصابة.
في الغرب، إذا قلت إنك تريد الثراء… يرسل لك والدك روابط دورات استثمارية.
الفرق واضح:
مجتمع عنده مشكلة أخلاقية مع المال.
ومجتمع يعرف أن المال يرفع الطبقة، يعزز التعليم، يحسن الصحة… ويحسن جودة الكلب المنزلي أيضاً.
ثالثاً: البعد الثقافي – “القناعة كنز لا يفنى” مقابل “اطمح للأعلى” في الدول المتقدمة
اليمني إذا اشتكى من راتبه يقولون له:
“القناعة كنز لا يفنى.”
في الدول الأجنبية، الموظف إذا اشتكى من راتبه تقول له الدولة:
“حسناً… ارفع شكوى قانونية، أو غيّر الوظيفة، أو اطلب زيادة، هذا حقك.”
اليمني يقبل بالقليل…
والغربي لا يقبل أن يكون راتبه أقل من قيمة وقته.
في اليابان لا يقولون:
“القليل يكفي”.
بل يقولون:
“إتقن عملك… وسيأتي المزيد.”
في ألمانيا لا يقولون:
“ارضَ بالقليل.”
بل يقولون:
“استثمر مهارتك.”
أمّا نحن؟
فقد حولنا القناعة من فضيلة… إلى مخدّر اجتماعي لتهدئة الأزمات.
رابعاً: البعد الاقتصادي – “الطمع يقل ما جمع” في اليمن… و”خاطر تربح” في العالم الحديث
اليمني إذا فكر بفتح مشروع…
الحارة تتحول لجنة اقتصادية:
– بتخسر
– انت طمّاع
– خليّك على راتبك “المضمون”
(الراتب الذي لا يكفي حتى مواصلات!)
أما في الدول المتقدمة؟
ريادة الأعمال ليست “طمعاً”… بل الطريق الطبيعي للطبقة الوسطى.
أمريكا والصين وألمانيا كلها بُنيت على فكرة:
“جرّب… خاطِر… افشل… ثم افعلها مرة أخرى.”
ولهذا لديهم:
شركات بحجم قارات
جامعات تصنع نوبل
اقتصاد يتحرك
ونحن لدينا:
مشاريع تُشنق قبل أن تولد
وجلسة قات تناقش “ليه فلان خسر؟”
ومثل شعبي يُصدر أحكاماً اقتصادية أقوى من وزير المالية
خامساً: البعد السياسي – أمة تحكمها الأمثال… وأخرى تحكمها القوانين
في الدول الأجنبية، الثقافة الشعبية تدعم النظام السياسي، وتقوي المواطن، وتدفعه للتفوق.
في اليمن، الثقافة الشعبية تفعل العكس:
شعب يخاف النجاح، يحتقر المال، يرضى بالقليل، ولا يجازف.
هذا شعب مثالي لأي سلطة—لا يطالب، لا يحتج، لا يطمح سوى بزيادة في الراتب أو اسطوانة غاز.
بينما المواطن في الغرب يحاسب الدولة على:
التعليم
الصحة
الضرائب
الشفافية
الخدمات
لأنه يعرف أن حياته ليست “معلقة على الحكمة الشعبية”، بل على حقوق المواطن.
الخلاصة اليمنية الأجنبية المقارنة
نحن لا ينقصنا عقل… ينقصنا التخلص من أربع جمل فقط
الدول الأجنبية صنعت اقتصاداً وعلماً وتكنولوجيا لأنها فتحت المجال للطموح.
ونحن أغلقنا المجال بالكلمات نفسها التي نرددها منذ مئة سنة.
هناك ثقافة تقول:
“تقدم… اكبر… حقق نجاحاً.”
وعندنا ثقافة تقول:
“استر نفسك… لا تكبر… لا تطمع… لا تظهر نجاحك… القناعة أحسن.”
نحن لسنا أقل ذكاء ولا قدرة…
نحن فقط أسرى تراث يعادي الطموح.
والكنز الذي لا يفنى فعلاً… ليس “القناعة”.
بل الفقر الذي تضمن بقاءه هذه الأمثال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى