بغداد دار السلام وبغداد دار الأيتام// نازك حكيم

بغداد، دار السلام، وسيدة العواصم، بجمالها الأخّاذ وسحرها الخلّاب، كانت يومًا ما درة الشرق وعاصمة الرشيد.
آباؤنا كانوا يحكون لنا عن بغداد التي كانت في طليعة الدول، حيث تتعانق المنارات مع القصور، وتغني الشوارع بالشعر والموسيقى، وحيث المنتديات تضجّ بالعلماء والأدباء.
لكن بغداد لم تخلُ من الحروب، ورغم ذلك، كان أهلها ينعمون بالمحبة والتسامح والأخوّة.
هي بغداد القصص والشعر، ودجلة والفرات… دجلة العرب والفرات الأوسط، نهران يسقيان قلب العراق منذ الأزل، في بلدٍ هو مهد الحضارات.
غير أن بغداد لم تهنأ طويلًا؛ فالحروب الداخلية مزّقتها، وأيدٍ خفية لعبت خلف الستار، لتحوّل مملكتها إلى جمهورية.
ولدتُ في بغداد في زمن الحرب، حرب الثمانين، الحرب الإيرانية، حيث كان البكاء لغة الطفولة، والدخان غمامة السماء.
الفصل الأول: بغداد دار السلام… وبغداد دار الأيتام
بغداد، دار السلام، وسيدة العواصم، بجمالها الأخّاذ وسحرها الخلّاب، كانت يومًا ما درة الشرق وعاصمة الرشيد.
كان آباؤنا يحكون لنا عنها كما لو كانت أسطورة، عن بغداد التي كانت في طليعة الدول، حيث تتعانق المنارات مع القصور، وتغني الشوارع بالشعر والموسيقى، وحيث المنتديات تضجّ بالعلماء والأدباء.
لكن بغداد لم تخلُ من الحروب، ورغم ذلك، كان أهلها ينعمون بالمحبة والتسامح والأخوّة.
هي بغداد القصص والشعر، ودجلة والفرات… دجلة العرب والفرات الأوسط، نهران يسقيان قلب العراق منذ الأزل، في بلدٍ هو مهد الحضارات.
لم تهنأ بغداد طويلًا، فالحروب الداخلية مزّقتها، وأيدٍ خفية لعبت خلف الستار لتحوّل مملكتها إلى جمهورية.
لم أكن هناك حينها، فقد وُلدتُ في بغداد زمن الحرب، حرب الثمانين، الحرب الإيرانية، حيث كان البكاء لغة الطفولة، والدخان غمامة السماء.
الفصل الثاني: ولادتي ومعاناتي في الحرب
ولدت في عام ١٩٨٦، في زمن الحرب الإيرانية مع العراق، حرب دامت ثمان سنوات، طاحنة لم تترك البيوت والمساكن عامرة، قتلا وجرحى وأسرى. انتهت الحرب عام ١٩٨٨.
كنت في عمر الورد، لا أزيد عن ثلاث سنوات، طفلة صغيرة لا تفهم الحرب.
وكان الفرح حاضرًا في البيوت بانتهاء الحرب، والمفاوضات لإعادة الأسرى.
كنا نسكن في بغداد في الكرخ، أجمل مكان في المدينة، نعيش مرتاحين، نهنئ بعيش رغيد، حيث رغيف الخبز الحار والأسواق المركزية، نلعب في ساحات اللعب.
لدي أربعة أخوة، أختي الكبرى، وأخي، وأختي التي تكبرني بثلاث سنوات، وأختي الصغرى تصغرني بعام.
أيام جميلة، وكأنها من الخيال.
لكن الأفراح لم تكتمل، لم يهنأ الشعب العراقي بعيشه، وبعد حرب إيران عاد نذير الشؤم: حرب التسعين ١٩٩٠، حرب مع أمريكا، العدو الأول.
لم نكن نفهم سبب الحروب المتتالية، ولماذا كل هذا الدمار.
الفصل الثالث: في الملجأ
كنت في الرابعة من عمري، كنا كعادتنا في دارنا في الكرخ، مع أمي وأبي وأخوتي.
في يوم من الأيام حدث قصف في بغداد، وأتذكره وكأنه محفور في ذاكرتي. كانت أمي في المستشفى، وأخي الصغير محمود مريضًا، وأنا أكبره بعأعوام
انقطعت الكهرباء، وعمّ الخوف المنزل. أتى أبي مسرعًا مع صديقه وقال: “اخرجوا من أماكنكم واذهبوا إلى الملاجيء!”
ذهبنا إلى الملجأ، حيث العريب من النار، والأطفال يحملون ما يستطيعون من مأوى يحميهم.
كان أبي وصديقه يحملاني أنا وأختي الصغيرة، وأخوتي يسيرون على أقدامهم، نركض خوفًا من سقوط الصواريخ والعيارات النارية والطائرات في سماء بغداد.
بعد قليل، قصف الملجأ الذي كنا فيه، راح ضحيته العديد من الناس الأبرياء. القصف طال المباني والمدارس، قتل وجرح الكثير، وعمّ الدمار والخراب كل مكان.
خرجت أمي حاملة أخي الصغير من المستشفى، بعد ساعات عصيبة في أول ولادة لها وسط القصف.
كانت الحرب مأساوية، لم نأمن فيها، ومرت علينا سنوات عجاف بين الحروب والحصار.
الفصل الرابع: زمن الحصار
بعد الحرب لجئنا إلى مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار، بحثًا عن الأمان.
هناك بدأت حكاية جديدة، لم يعد فيها العمر أو الطفولة مهمًا.
حرب تلتها حصار دامٍ، سنوات عجاف بلا ماء، بلا مأوى، بلا مدارس.
كنا نطلب الملابس الجميلة والطعام الحلو، فيقولون لنا: “حصار”. لم نفهم السبب، ولماذا تتوالى الحروب.
كبرنا على هذا الحال، أيام صعبة، نبكي على بغداد، التي هزتها الحروب.
بغداد، دار السلام، أصبحت خرابًا وملاذًا للأيتام.
الحصار كان مرحلة من الحرب، والمأساة مستمرة، حتى 2003، عندما بدأت الحرب على العراق مرة أخرى، في زهرة شبابنا.
الفصل الخامس: الحرب الأخيرة والانتقال إلى صلاح الدين
الحرب تتابعت مع الاحتلال، العنف، والحصار، فانتقلنا أنا وأخوتي إلى صلاح الدين، بعيدًا عن الفلوجة. سكنّا في قرية صغيرة، وكان أبي مؤذنًا في المسجد، رجل دين وعلم، يحاول إيجاد أمل لنا، وأصبح عمله مهنة تليق به.
عشنا هناك سبع سنوات، ودرسنا في مدارس القرية، كانت المنطقة هادئة، لكن الخوف ظل حاضرًا، من دقات أجراس تنذر بالحرب القادمة.
رغم ذلك، كانت إرادة الشعب قوية، لم يسكت الاحتلال، وأرسل فرقًا للفساد والعنف، لكن صوت الشعب كان صوت الحق، وإرادته هي الحكم.
عاد الجيش العراقي، وعاد الأمل، لكن يبقى السؤال: من سيحكم العراق بلا نزاعات، بلا حروب طائفية، بلا مجازر؟
الفصل السادس: نذير الشؤم ووقع الحرب
الحرب في العراق لم تتوقف، بلد النهرين، ندعو الله أن لا يحتل الأجانب بلدنا.
بعد الحروب والحصار، جاء الاحتلال ليطيح بالدولة والجيش العراقي البطل.
أحرقت الأخضر واليابس، ضاع الأمان، وقتل الناس وأصبح الأطفال أيتامًا، والجوع يعمّ الشوارع، والناس تُخطف من منازلهم.
ذهبنا إلى دارنا في الفلوجة، مدينة الإباء والكرامة، التي لم ترضَ بالاحتلال ولم تطمئن يومًا للظلم.
خرج الناس بشجاعة، متحدين، يقولون: “أخوتنا من الجنوب، آزرونا في محنتنا، حاربوا المحتل معنا!”
صوتهم مدوي: “الحرب على المحتل!”
تحالف العراقيون في بغداد والأنبار وصلاح الدين والمناطق الجنوبية، بيد واحدة، وصوت واحد، وجسد واحد.
قاتل الشعب من أجل الحرية، لكن المحتل لم يسكت، أرسل فرقًا للفساد والعنف، واستمرت المجازر والجفاف وسوء المعيشة.
عاد الجيش العراقي، وعاد العراق، لكن يبقى السؤال: من سيعيد للعراق الفجر، والحكم العادل، والشعب المتماسك؟
هذا القرار متروك للأيام، لإرادة الشعب العظيم، ولأحداث المستقبل.
الخاتمة
هكذا عاش العراق، بين الحروب، والاحتلال، والحصار، والمجازر، لكن الشعب بقي صامدًا، متحدًا، حاميًا لوطنه.
من بغداد إلى الفلوجة، ومن صلاح الدين إلى الجنوب، قصة شعب يحب الحرية، ويحلم بالعدالة، رغم كل الألم والمأساة.
هذه الرواية شهادة على الصمود، على الأمل، وعلى حب العراق وكرامته، وتظل بغداد دار السلام، رغم كل الدمار، ودار الأيتام، رغم كل الحزن.







