حمزه الحسن يكتب :سقط مضرجاً بكرامته

ـــ الى الشهيد عز الدين سليم: نحن لا نزال في السرداب.
كانت سيارة اخر رئيس لدورة مجلس الحكم الانتقالي ـــــ بمنزلة رئيس جمهورية مؤقت ــــ وزعيم حزب الدعوة ـ فرع العراق قد دخلت الباب الرئيس المحروس من القوات الامريكية
في المنطقة الخضراء عندما انفجرت سيارة مفخخة مركونة الى جانب نقطة الحراسة في 17 حزيران 2004،
وقتل هو وعدد من المارينز ايضا ومن مرافقيه ـ لأن مصالح امريكا أهم من حياة جنود يحملون الكارت الأخضر وعند الموت يحصلون على الجنسية الأمريكية، أي ضحايا يقاتلون ضحايا وهذه أخلاق الرأسمالية تحت شعارات مزيفة.
بذلك يكون تحذير الحاكم المدني الامريكي بول بريمر للشهيد قد وضع موضع التنفيذ وتخلص من الصداع حين قال له في اخر اجتماع عام للمجلس ، متوعدا، ومهددا:
“مستر سليم، هذه المرة الأخيرة معك”.
من الواضح أن صبر الحاكم الامريكي قد نفد على ترويض السيد عز الدين سليم القادم من وسط عراقي جنوبي بسيط ومتواضع ولكنه نظيف،
وانه ليس من صنف الساسة الذين يستطيع بول بريمير أن يوغل في اهانتهم كما اعترفوا هم بعد رحيله بعد أن روض وأهان الجميع ووصفهم في كتابه ” عام قضيته في العراق ” في أنهم حثالات تم جمعهم من شوارع وحانات الغرب وهو خيار امريكي تقليدي.
بهذه الطريقة تمت تصفية شخصيات سياسية ودينية وثقافية وقانونية وأساتذة جامعات وأطباء وضباط كبار، السيد الحكيم، كامل شياع، ومن أطياف مختلفة لكي لا يظهر القاتل النمطي بل في حالات لخلط الأوراق قتل حلاقات صالونات تجميل أو شباب بسبب الزي بحيث نحتاج محقق روايات أجاثا كرسيتي بوارو لكشف القاتل الأكثر وضوحاً. أحياناً الوضوح لا يرى كشمس الشرق الأوسط.
ثم تدعي منظمة ارهابية مخترقة أو مصنّعة تحت اليد مسؤوليتها.
بسقوط السيد عز الدين سليم مضرجا بكرامته يكون أول شخوص روايتنا السيروية” الأعزل” قد أغتيل،
لأن المرحوم هو أحد شخوص الرواية ـ السيرة وكنت قد تعرفت عليه في طهران عام 1988،
وكان منزله في شارع ولي عصر ـ طهران، مفتوحا لي باستثناء خاص لانه سري ،
في الطابق الارضي السرداب من عمارة جنرال هارب من جهاز السافاك الايراني،
وكان هو يسكن في الطابق الخامس مع الاسرة وفتاة عراقية يتيمة تولى هو رعايتها حتى صارت مدرسة وتزوجت كما قال لي في اخر رسالة بيننا قبل أن يسشهد بأيام،
وذكر ايضا ان صاحب العمارة جاء واستلمها وعندما شكرته على الضيافة من النرويج بعد مرور خمس عشرة سنة ، أجاب :
” ولكن يا أخ حمزة كيف تتذكر كل ذلك وانت كنت عابرا في حين عاش في المنزل مئات غيرك لم اسمع منهم اليوم كلمة شكر عن تلك الأيام؟”.
بالطبع هناك من لا يشكر يوم كانت قيم الزاد والملح وقدح ماء أو شاي أو هذا أمه تعرف أمي ونحن في شارع وعمل واحد ومن منطقة واحدة وفلان أكلت وشربت في داره ، كل هذه وغيرها كانت أعرافاً ودستوراً ملزماً يمنع من التجاوز بل الغفران والتسامح،
وبدل هذه” المثل العليا” حلّت مصالح السياسة المشوهة.
قبل اغتيال السيد عز الدين كتبت عنه في الرواية السيروية” الأعزل”
وتحاشيت ذكر الاسم في الطبعة الاولى عام 2000 بل تحدثت عن السرداب وشخوصه لأسباب أمنية،
لكن في الطبعة الثانية عام 2007 ذكرته بالاسم بعد زوال المخاطر الامنية،
وكتبت أكثر من مقال أيضا، وأنا كروائي غير ملزم بالبحث عن هويات سياسية ودينية وعقائدية للناس وهم أحرار في الاختيار وكل ما يهمني هو الجانب الأخلاقي. البحث عن “هويات أخلاقية” من تقاليد الأحزاب الشمولية التي تفتقر لكل أنواع الأخلاق وتختزلها كما ترغب.
صارت العلاقات الانسانية في العراق تتأسس على أساس المصالح أو العقائد أو الولاءات أو الطوائف والخ،
مع ان الوطن والهوية والمصير والنبل والزاد والملح والنخوة والارض والأمل المشترك هي روابط عميقة تؤسس لهوية أكثر نبلا واصالة ونقاءً،
اضافة الى ان الروائي ليس معنيا بالتصنيفات الجاهزة والخانات ،
وهو ليس مؤسسة أمنية يؤرشف للآخرين ويبحث لهم عن هوية سياسية و أخلاقية،
وهذه هي الحياة ليست خيارات دائماً.
كنا ننام في بيت المرحوم عز الدين في الليل عندما لا أعثر على مكان للنوم في طهران المتاهة والعاصمة الكبيرة في شهور الحرب الأخيرة ونقضي النهار في بيوت العراقيين المطرودين من وطن ولدوا فيه سهواً وللانصاف كانوا لنا وطناً بديلاً.
في المساء في مقهى نادري ـ شارع جمهوري اسلامي، مقهى النخبة الايرانية المثقفة
وننحدر نحو زقاق كوجة مروي أو عالم طهران العميق والسري غير الظاهر،
حيث كل ما هو ممنوع ويباع في الخفاء:
المدن الاسيوية مدن مشوهة: فوق السطح منائر، تحت السطح معاصر نبيذ.
كنا ننزل قاع طهران السري وهو يختلف كليا عن طهران السطح العلني،
وهو أمر عثرت عليه في العاصمة اسلام آباد أيضا وفي مدن الشرق. المدن تختفي في الشرق وتنزل الى عالم سري كالاشخاص.
قتل عز الدين سليم بسبب قضية وطن مهما اختلفنا في صورة انقاذ هذا الوطن لكن عز الدين بالنسبة لي ليس زعيم حزب اختلف معه هنا وهناك،
وليس رئيس آخر مجلس انتقالي أرفضه، لكنه صديق وأخ وصاحب باب فتحت لنا يوم كنا مشردين بلا وطن ولا طعام ولا مأوى:يتم عراقي حزين كظهيرة شاحبة قائظة.
قبل حوالي اسبوع من استشهاده كتبت له رسالة تحذير من الاغتيال وكنت أضع في تفكيري التجربة المغربية والتونسية والجزائرية عندما قام الاستعمار الفرنسي قبل الانسحاب بعمليات اغتيالات واسعة تسمى” التنظيف” للعناصر الوطنية النظيفة لكي يصبح الجو هادئاً للعناصر الانتهازية المسيطر عليها التي تنشغل بصراعات بينها على السلطة والثروة بشعارات الاصلاح والتغيير المزيفة وليس على مشروع دولة وطنية عادلة ومستقلة:
كان رد المرحوم عز الدين:
” الأعمار بيد الله”.
وهذه القدرية الحرفية هي الثغرة التي نفذ منها القتلة الى كثير من الشخصيات الوطنية.
نحن لا نزال في السرداب يا أبو ياسين نحرض الايام والاشجار والغيوم والمطر، والمعركة مستمرة، على حطة يدك بالمثل العليا نفسها ولو شرقت وغربت الدنيا،
وننتظرك في الطابق الأسفل او السرداب من العمارة لكي نتقاسم الزاد والملح وأحلام مستقبل لم نكن نعرف انه يجهز لك موتاً مشرفاً بطولياً ضاع في ضجيج المساومات والصفقات والسوق والأقنعة التي صارت وجوهاً حقيقية.
سنظل نحرض الايام والمنافي والاشجار حتى اليوم الاخير.
الشهداء يُقتلون مرتين: مرة عند الاغتيال، وثانية في النسيان وهو الموت القاسي والأخطر.







