د.فيروز الولي تكتب :إضراب القماش… وفضيحة اقتصاد يُدار بالخيط والإبرة

في صنعاء، المدينة التي تحولت من عاصمة تاريخية إلى غرفة إنعاش اقتصادية، يُعلّق تجار الملابس والأقمشة لافتة كبيرة فوق المشهد: “السوق مغلق… ليس بسبب الحرب، بل بسبب وزير المالية!”
نعم، وزير في حكومة غير معترف بها دولياً، لكنه معترف به جيداً من قبل التجار… كأكبر صانع للجبايات في القرن الحادي والعشرين.
منذ أيام، عشرات الأسواق مغلقة: أبواب حديدية تسعل الصدأ، محلات مطفأة كأنها في حداد، وتجار يمشون في الشوارع بأعين متعبة وكأنهم يسألون العالم:
هل رأيتم وزير مالية يحول الأقمشة إلى قضية أمن قومي؟
النقابة العامة لتجار الملابس والأقمشة خرجت ببيان ناري، قالته باللهجة التي لا تحتاج مترجماً:
“يا وزير المالية… كفى! لقد حوّلت القميص إلى جريمة، والجاكيت إلى مخالفة، والملابس إلى مشروع استثماري للدولة المحشورة في جيبك!”
القرارات التعسفية التي فرضتها سلطة الحوثي لم تعد رسوماً جمركية… أصبحت جباية بالقطعة، بالزرار، وأحياناً—بالخيط!
تاجر يستورد شحنة ملابس؟
– يدفع جمارك.
– ثم يدفع جباية.
– ثم يدفع غرامة الجباية.
– ثم يدفع جباية الغرامة.
– ثم تأتي لجنة “المطابقة” لتتأكد أن التاجر لم يهرب ابتسامة خلف القماش.
وعندما شعر التجار أن الخزائن تُفرغ من جيوبهم وليس من إيرادات الدولة، قرروا الإضراب.
إضراب حقيقي، لا يشارك فيه إلا من عنده شرف البقاء وكرامة الفلس الأخير.
النقابة قالتها بصراحة مخيفة:
أي تاجر يفتح محله فسيتم التعامل معه كما لو أنه خان “عقيدة القماش”!
عقوبات، إجراءات صارمة… وكأننا أمام مجلس عسكري لا نقابة تجارية.
لكن في اليمن… كل شيء يتحول بسرعة إلى ملف أمني، حتى لو كان قضيتك “بنطال جينز”.
والطريف المُبكي أن الإضراب لم يعد محصوراً بالملابس، بل امتد إلى قطاعات أخرى:
– الخردوات،
– الألعاب،
– العطور،
– التحف،
– الإكسسوارات…
وكأن الشعب كله يقول: “يا جماعة… نحن ما عد معنا فلوس حتى نعيش، جايين تزيدونا جبايات على الأشياء اللي مش قادرين نشتريها أصلاً؟!”
المشهد الدرامي الحقيقي؟
صنعاء اليوم تبدو كمدينة ارتدت عباءة سوداء حداداً على آخر نبض اقتصادي فيها.
الأسواق مغلقة، الحركة مشلولة، والسلطة تبتسم بثقة من يعتقد أن رفع الرسوم سيملأ الخزينة، بينما الخزينة لا تمتلئ إلا بجيب المواطن المسكين، وليس بجباية المستورد الذي سيضاعفها عليه في الفاتورة.
أما الوزير الذي أصدر القرارات، فيبدو أنه يعيش في اقتصاد آخر…
اقتصاد لا توجد فيه حرب، ولا فقر، ولا رواتب منقطعة، ولا شعب مهدود.
اقتصاد ورقي جميل… ينهار بمجرد أن تلمسه يد تاجر خسر رأس ماله في “مكتب جمارك”.
التحليل الأقسى:
هذا الإضراب ليس اقتصادياً فقط… إنه صرخة مجتمع تجاري مخنوق.
وهو ليس ضد الحكومة… بل ضد طريقة إدارة السوق كغنيمة وليس كقطاع حياة.
وهو ليس مجرد إغلاق محلات… بل إعلان رسمي أن القطاع الخاص لم يعد يتحمل “مصاريف سلطة” تعتبر نفسها شريكاً إلزامياً في كل أرباح التاجر، ولا تشاركه خسائره.
الخلاصة المؤلمة:
في بلد تنهار فيه العملة، وتختفي الرواتب، وتُحتجز البضاعة على أبواب الجمارك أكثر مما يحتجز السجين السياسي في الزنزانة، يأتي وزير المالية ليقول للتاجر:
“ادفع… وإلا!”
فيرد التاجر:
“لن أدفع… ولن أفتح!”
وهكذا تتحول الأسواق إلى شوارع خاوية، والتجارة إلى معركة إدارية، والملابس إلى عنوان للنظام الاقتصادي الذي ينهار بخيط واحد… لأن من يديره ليس خياط بلد، بل قاطع طريق يصرّ على أن يأخذ حصته من كل قميص وكرتون وفستان.
خاتمة
إذا كان إضراب القماش قد كشف حجم الاختناق، فاستمرار هذه السياسات سيجعل المواطن لا يشتري حتى قطعة قماش لدفن ما تبقى من اقتصاده.
وعندما يتحول السوق إلى ساحة حرب…
لا تبحث عن المنتصر.
فالخاسر معروف: شعب يدفع ثمن حكم لا يتقن إلا الجباية.







